في كتابه "هرطقات 2" يضيء الباحث اللبناني جورج طرابيشي تلك المساحات المظلمة من تاريخنا الإسلامي! وأضع علامة التعجب لألفت نظر القارئ، إلى أن الكاتب، كما يدل عليه اسمه، عربي مسيحي من لبنان، يضعنا أمام مسؤوليتنا ككتاب ومواطنين، لنتبصر أمر "أزمتنا" المستعصية، المقيمة، وهو يحيل إلى تاريخ من العنف الطائفي الإسلامي الذي لا شفاء منه إلا من خلال مراجعة هذا التاريخ والاستفادة من عبره المريرة، ليقرر أن أوروبا حلت اشتباك السياسة مع الدين بفصل الكنيسة عن الدولة، نعم، وهنا ثمة ما يقابلها هو المسجد/ الجامع عن الدولة، ولا مراء في أن الأزمة الإسلامية الماثلة الآن، وإن لبست لبوسات دينية، فهي سياسية، عند العودة إلى "الأصولية" عن طريق التفخيخ والحرق والإرهاب، ولا تتمثل في الصراع بين حضارات مسيحية وأخرى إسلامية، فمن المعروف أن مواقف الدول الغربية إزاء شرقنا الإسلامي العربي وغير العربي لا تنطلق من مسيحية (هم) بمواجهة إسلام (نا)، فالأحزاب التي تقود حكومات بلدانها في الغرب لا تنطلق من "آيديولوجيا" دينية/ مسيحية، وعليه، كما تتبدى ثيمة كتاب طرابيشي المهم "هرطقات 2" ينبغي أن تعامل كإشكالية إسلامية – إسلامية، على أن العنف في تراثنا وحاضرنا هو عنف طائفي داخل الدين (الإسلامي) أكثر منه عنفاً إثنياً أو دينياً لأن:
".. فالإسلام العربي بواقعه الديموغرافي الحالي، يتألف من غالبية سُنية بكل تأكيد، ولكن أيضاً من أقليات شيعية ونصيرية وزيدية وإسماعيلية ودرزية وإباضية.. ومن منظور هذه التعددية الطائفية الإسلامية، فإن قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية – إسلامية".
ذلكم هو منطوق بحث طرابيشي ومنطلقه في كشف "المسكوت عنه" الذي طفح كمستنقع آسن بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، الذي يحلو للكثيرين تعليقه على مشجب الأجنبي، دائماً وأبداً.
إن الصراع الطائفي الإسلامي لا يمكن مقارنته بالصراع الكاثوليكي – البروتستاني في الغرب، لأن الأول دام مئات السنين، كما يقرر طرابيشي، كإجراء أولي باتجاه الكشف عن "التاريخ المغيب" لذلك الصراع (الإسلامي). وإذ يسوق الباحث الكثير من الأمثلة، مع شواهدها ومصادرها، على الصراع العنيف، فعلياً وقولياً، بين السُنة والشيعة (تحديداً، ما تعرض له الشيعة في الخطاب السُني التراثي والمعاصر) منذ ما يقرب الألف عام حتى اليوم، فأنه يستخلص مفهوماً مهماً يتعلق بـ "توأمة" الديمقراطية والعلمانية، فلا تعني أي منهما ما تعنيه من دون استرداف إحداهما الأخرى، كي يستقيم القول والفعل، فلا يجوز أن يقوم نظام ديمقراطي في العراق (حتى في شكله الهش وتطبيقاته التحاصصية) من دون علمنة اجتماعية/ سياسية. فإسلام اليوم، يقوم على دستور لا يعترف بمصدر آخر سوى القرآن والسُنة، وفقه الأئمة الإثني عشر عند الشيعة.. إذاً، ما هي حقوق وواجبات الأقليات الأخرى، غير الإسلامية في مجتمع "ديقمراطي"؟
لا شك، إن مجتمعاً، علمانياً، بل ديمقراطياً، كمجتمعنا سيؤول إلى العدم حتما، وفي جوارنا الشمالي التركي خير مثال، يقول طرابيشي:
".. فإن العملانية قد تدخل في طريق مسدود إذ أن العمق المجتمعي اللا معلمن قد يرتد عند أية سانحة على السطح السياسي المعلمن، كما تنذر بذلك المآلات الراهنة للتجربة العلمانية الكمالية الفوقية في تركيا".
العلمانية ليست شعاراً ولا موقفاً نظرياً، إنها مجموعة إجراءات تربوية، وإعادة تربوية، اجتماعية، أي أن تتجه من أسفل إلى أعلى وليس العكس، مثل أية بنية تحتية تخلق بنيتها الفوقية، وليس العكس.
"هرطقات" طرابيشي أفكار بشأن حياتنا، اليوم، والتفكر في جذور العنف الماثل الذي يعصف بمجتمعاتنا العربية من نواكشوط أقصى مغربنا حتى بغداد أقصى مشرقنا، والمسؤولية مسؤوليتنا، نحن العرب والمسلمين، من دون إنكار موقف الغرب التوسعي/ الاحتلالي في "إتاحة الفرصة" لتدفق نتانة مستنقعنا المخفي، لكن الموجود، والحل يكمن في العودة إلى بحث جذور المشكل الإسلامي – الإسلامي لا بإلقاء تبعات ما يحدث على العامل الخارجي وحده.
"هرطقات" جورج طرابيشي
[post-views]
نشر في: 9 فبراير, 2015: 02:45 ص