وأنا أواصل طريقي على خطى اليافع هولدن بطل رواية الأميركي سالنجر "الحارس في حقل الشوفان" في نيويورك، وفي السنترال بارك أولاً، أصل بعد مروري بالحصان الخشبي، الذي لعبت عليه أخته ذات يوم، أصل إلى نبع مائي قريب، فتلفت نظري فتاة صغيرة جلست هناك، ربما كانت في العاشرة من عمرها، تشبه أخت هولدين بالضبط، الشعر الأحمر ذاته. لبست فانيلة زرقاء، تبذل جهداً استثنائياً، لكي تستطيع الجلوس باستقامة، ثم تبعث بحركة من كفيها قبلاً هوائية باتجاه أبيها الذي جلس في مكان ليس بعيداً عنها، أنها تفعل ذلك مثل نجمة تحيي جمهورها.
كان والد هولدين يعمل محامياً لشركة كبيرة، لذلك كان بإمكان عائلة هولدين، أن تسكن في بيت في الجانب الراقي من المدينة "أب إيست سايد". في الرواية لا نجد للبيت عنواناً معيناً، بل حتى لا نعثر على وصف دقيق له، رغم ذلك هناك إشارة وحيدة إليه. مرة واحدة فقط، يقول هولدين، بأن أهله يسكنون في شارع 71، وكيف أنه يستطيع مع أخته، الوقوف عند الشباك لكي يشاهدا الفيفث أفينيو.
بحسب الرواية لا بد أن تضم البناية التي يقع فيها البيت 12 طابقاً. وعندما أبحث عن البيت، أجد أن البيت الوحيد الذي تنطبق عليه هذه الصفات، هو البيت رقم 3 شرق الشارع 71. لا يبدو البيت راقياً بصورة خاصة، مقارنة بالبيوت الأخرى في الحي. البناية عالية، هناك بواب يحرس البناية. أفكر لبرهة، ما الذي سأقوله للبواب لكي أصل للبناية العالية. لو حدث ذلك قبل 11 أيلول، وقبل أن يهجم أمراء الظلام على العالم، ويبدأوا حربهم قبل ثلاثة عشر عاماً على نيويورك، لكان الأمر بسيطاً، ولكن الآن؟ كان الوقت أصبح مساء. فكرت، أنها مفارقة بالفعل، ففي نفس الوقت، وقف هولدين آنذاك، وكان الدخول للبيت بالنسبة له، يسبب معضلة أيضاً. كان يريد أن يزور أخته بسرية، دون أن يشعر أهله بذلك، وكان عليه أن يخترع قصة للبواب، الذي هو بالصدفة شخص غبي أحمق. إذن، يقول لنفسه، إنه يريد أن يزور عائلة "ديكشتاين" في الطابق الثاني عشر، ويدّعي حينها بأن قدمه مكسورة.
هولدن كذاب خيالي، ماهر، وتلك هي عبقريته، وهو يعرف ذلك. بالتأكيد لن يسمح لي البواب بصعود المصعد، لو استخدمت الحيلة ذاتها. فقلت في سرّي، إذن فلأصارح الرجل بالحقيقة. وهذا ما فعلته. البواب كما يبدو، يعرف عنوان الكتاب، ويعتقد بأنني أنا الآخر أديب مختل العقل! اللوبي أبيض، وفيه العديد من المرايا، والزهور واللمبات. المصعد مؤطر بالخشب. قلت للبواب عندي الفضول لأرى من يسكن في الطابق الثاني عشر.
أرجع للفيفث أفينيو إلى تحت هذه المرة، مرة أخرى أسير بالتوازي عند جدران سنترال بارك. فأتذكر المشهد الوحيد في الرواية، الذي يسير فيه هولدين مترنحاً عبر سنترال بارك، وقد ضلّ طريقه، عندما كان يبحث عن بركة الأوزات. أريد أن أذهب مرة أخرى إلى هناك، دون أن أضلّ طريقي. لكنني أشعر فجأة بأنني ضللت الطريق بالفعل، من دون قصد، وأنني أصبحت عند الجهة الشمالية البعيدة عن المكان الذي أردت التوجه إليه، حتى أنني بقيت أدور لما يقارب الساعة. عندما بلغت الجسر الخشبي الصغير، سمعت صوتاً ضعيفاً يأتي من جهة متزحلقي الجليد عند "الفولمان بينك"، هناك حيث ما زال يسبح بحر الضوء. أتطلع من حولي في الأرجاء، فأرى جنوباً، وراء جدران سنترال بارك ناطحات السحاب ترتفع في سماء الليل، وفي البركة تلمع أنوار فندق البلازا. لدقائق قليلة أظل واقفاً في ذلك المكان، أتطلع بأزواج العشاق الذين يمرون بيّ، والذين لا يستطيعون عبور الجسر الخشبي الضيق، دون أن يلتصقوا ببعضهم بعضاً ويقبلوا بعضهم بعضاً. كانت لحظة فريدة من نوعها، غمرتني بسعادة نادرة. كم تمنيت أن أكون هناك مثلهم أقبل المرأة التي أحب!
زيارة لنيويورك والبحث عن الحارس في حقل الشوفان 3-3
[post-views]
نشر في: 10 فبراير, 2015: 02:52 ص