تشعر وأنت تتابع الفيلم الوثائقي العراقي (بين الضلوع) أنك تشاهد قطعة خالصة من الواقع دونما وجود للكاميرا أو المخرج أو أي من عمليات المونتاج اللاحقة . ويبدو أن هذا ما أراده مخرج الفيلم بالضبط. فقد ترك الكاميرا تسجل ما تراه مناسبا ومنطقيا وضروريا لتجسيد
تشعر وأنت تتابع الفيلم الوثائقي العراقي (بين الضلوع) أنك تشاهد قطعة خالصة من الواقع دونما وجود للكاميرا أو المخرج أو أي من عمليات المونتاج اللاحقة . ويبدو أن هذا ما أراده مخرج الفيلم بالضبط. فقد ترك الكاميرا تسجل ما تراه مناسبا ومنطقيا وضروريا لتجسيد قصة صمود قرية صغيرة أمام الطغيان الداعشي الذي عبر عن نفسه بأبشع السلوكيات والأساليب ، والذي أكدت كل لقطة في هذا الفيلم انتصار أهالي قرية (الضلوعية) عليه بكل المستويات القتالية والمعنوية.
قادنا مخرج الفيلم الدكتور عبدالرحمن ذياب، مدير المركز الثقافي العراقي بلندن، بسلاسة وعفوية الى جوانب متعددة من حياة القرية تاركا الأشياء تتحدث عن نفسها وتروي قصتها المشرّفة مع الإرهاب . المرأة التي تحمل البندقية على كتفها وهي تسير في المزارع على بعد أمتار من القتلة، وأطفال المدارس الذين تجاوزوا أعمارهم الصغيرة في رؤيتهم الصادقة للواقع ، والأطباء الذين يشرفون على علاج الجرحى في الزوارق النهرية التي باتت وسيلة النقل المثلى بعد أن تهدمت الجسور الرابطة وأصبح نهر دجلة الذي يحمي القرية من ثلاث جهات، صلة الوصل بين الأرض والناس. أما رجال القرية فهم في حالة تأهب دائم للقتال ، برغم الوجع النفسي الناجم عن فقدان الأهل والأبناء. فهؤلاء الناس يترقبون الموت وينتظرونه في كل لحظة بل هم يتمنونه طمعا بالشهادة، وكما قال أحدهم (عزيز المثلنا يظل راسه مرفوع).
ومن الجوانب الإيجابية في الفيلم التأكيد على الوحدة الوطنية . فقد تحدث أهالي الضلوعية عن وجود أبناء المحافظات الجنوبية جنبا الى جنب معهم في أرض المعركة حيث جسد الواقع القتالي في القرية القيم البطولية المتوارثة وطبيعة العراق الاجتماعية السمحة. وتشعر أن هناك وعيا كبيرا بحقيقة ما يجري . وكان الجميع يتحدث بلغة واحدة تعبر عن الإيمان والإصرار والأمل، وأصدر أئمة المساجد خطابا جريئا يعبر عن رسالة الدين السمحاء التي تدين التطرف والاعتداء و تنبذ التفرقة المذهبية. وقال أحد رجال القرية أنهم فهموا منذ البداية أن الداعشيين لم يأتوا من أجل نصرة الدين وليس لديهم فكر واضح (يخسون أهل الراية السودة..!). وشكلت موسيقى (الجوبي) خاتمة رائعة للفيلم حيث أكد المخرج من خلال هذا المشهد على أن القصيدة والأهزوجة الشعبية والموسيقى الحماسية ما تزال تشد من أزر المقاتلين كما كانت تفعل دائما في تاريخ المعارك العربية.
قدم الفيلم رسالة تلقائية واضحة عن قرية عراقية شجاعة تواصل حياتها الطبيعية بقوة الإيمان والعزيمة برغم ما يتهدد سكانها من مخاطر كبيرة أودت بأرواح العشرات من أبنائها الذين باتوا يُدفنون في حدائق المنازل إذ لم يعد هناك فرق بين الموت والحياة. والملاحظ أن مشاهد القتال في الفيلم لم تستغرق أكثر من دقائق معدودة بينما مشاهد الحياة اليومية والبيئة الوادعة شكلت معظم وقت الفيلم. كما قدم الفيلم رسالة مهنية هامة تؤكد على أن بالإمكان انتاج فيلم مؤثر بأقل التكاليف. وقد تطرق مخرج الفيلم خلال الحوار الذي دار مع الجمهور بعد العرض الى هذا المفهوم مشيرا الى أن الإعلام التلفزيوني العراقي يعاني من الإفلاس، فالصحفي هو الذي يكتب التاريخ، مشيرا أيضا الى أن داعش أكذوبة كبيرة صنعها الأعلام وأنها ليست بالحجم الذي تبدو فيه.
اتسمت الأمسية، التي أقيمت في العاشر من كانون الثاني - يناير وكانت أولى أمسيات المركز الثقافي العراقي بلندن في العام الجديد، اتسمت بالمشاركة القلبية والحيوية من قبل الجمهور قبل وبعد العرض. فقد وجد الدكتور فرياد حويزي مايقوله عن قرية الضلوعية التي قضى فيها أسعد أيام عمله كطبيب منتدب، وناله من كرم أهلها وحسن ضيافتهم ما يتعذر محوه ُ من الذاكرة. وقال المصور الفوتوغرافي حسين السكافي أن صعود الكاميرا من لهب التنور حيث كانت إحدى نساء القرية تُعد الخبز، الى أعالي النخيل يجسد التحام الإنسان بالبيئة، وقال الدكتور سعدي الحديثي أنه لم يكن على دراية كافية بما يجري في الضلوعية قبيل مشاهدة الفيلم الذي نقل حياة الناس بكل عفوية ومصداقية. بينما قال المخرج والممثل الفنان جمال أمين، المشرف على نادي السينما، في افتتاحه للأمسية، أنه لم يسبق أن تجرأ مخرج عراقي على التصوير في مناطق القتال، وهي بلا شك خسارة تاريخية كبيرة حيث أنه لابد من توثيق الأحداث الجسام التي تجري على أرض العراق.
تجدر الإشارة أن الفيلم تم تصويره في ظروف أمنية خطيرة قبيل أسبوعين من تحرير المنطقة من العصابات الإرهابية، وتزامن عرضه في المركز الثقافي العراقي بلندن مع الاحتفاء الرسمي بتحرير المدينة.