-2-
ما أكتبه الآن هو نموذج من الخواطر و الذكريات، وليس عملاً أكاديمياً، أتمنى أن تتاح لي (فرصة الصحة و العمر) لأقوم به. ولا شك أن ما أكتبه سيفيد الآخرين- ممن سيكتبون عن الجواهري (المغبون) في قابل الأيام.* * *كانت هناك صلة متينة بين الجواهري و عميد ا
-2-
ما أكتبه الآن هو نموذج من الخواطر و الذكريات، وليس عملاً أكاديمياً، أتمنى أن تتاح لي (فرصة الصحة و العمر) لأقوم به. ولا شك أن ما أكتبه سيفيد الآخرين- ممن سيكتبون عن الجواهري (المغبون) في قابل الأيام.
* * *
كانت هناك صلة متينة بين الجواهري و عميد الأدب العربي (العلامة الأعلم) طه حسين.
في الذكرى الألفية لأبي العلاء المعرّي، في معرة النعمان، ألقى الجواهري رائعته (قف بالمعرة و أمسح خدها التربا)
و عندما بلغ بيته الشهير:
لثورة الفكر تأريخ يحدثنا
بأن ألف مسيح دونها صلبا
قام العلامة طه حسين من مقعده في القاعة حيث كان جالساً و وقف بقامته المديدة و قال: (أعد ألف ألف مرة).
عندما أصبح الدكتور طه حسين وزيراً للمعارف في وزارة حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا. دعى الجواهري و أسرته إلى مصر و طلب منه الإقامة في القاهرة، و أدخل أولاده المدارس. في أحدى الجلسات الثنائية ببراغ، قلت ضمن الحديث: يبدو أن علاقتك متينة و ودية مع الدكتور طه حسين، فأجابني بحدة: لا .. لا.. هذا (الكذا). قلت: معلوماتي تؤكد ما أقوله. قال: هل رأيت فيما يكتب ان يذكر مهدي الجواهري في زاوية صغيرة. قلت: يا أبا فرات أنا أدرك السبب. فقال: (احكي عزي .. احكي). فقلت: حسب ما تعلمته، أن مركز الشعر العربي و قمته كان دوماً في العراق، فيقال أن أمرىء القيس نظم معلقته في العراق:
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أبو العلاء عاش في العراق و المتنبي عراقي, و لدينا أبو تمام و الجرير و الفرزدق و شعراء القرن التاسع عشر و شاعر العرب الأكبر الآن عراقي، و يريد المصريون أن ينقلوا ذلك إلى مصر أيضاً. فسموا أحمد شوقي - أمير الشعراء - و لكنهم يفشلون حتى لو تبنى طه حسين ذلك.
فتعجب الجواهري و قال: أحسنت عزيزي، أحسنت.
كان الجواهري لا يحب ما سميّ بالشعر الحرّ، لذلك لم أذكر أن الشعر الحر ولد في العراق و لم أذكر له في هذا السرد نازك الملائكة و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي، و غيرهم. و ذات مرة كان حديثنا يدور حول علاقتي بعبد الوهاب البياتي في الشام و الإتحاد السوفيتي و بغداد، و كنا نتحدث عن نسبه الكردي، فقال الجواهري: هو كلش خوش ولد، بس ليش هيجي يسوي. قلت: ش يسوي. قال: أنت تعرف ما أقصد. فسكتت، إذ أعرف أنه ضد الشعر الحر و كان يريد أن يكون البياتي بعيداً عن هذا النمط و يسير على نهج الشعراء القدامى.
* * *
ذات مرة، قدمت وفود من المحامين المصريين إلى العراق و في نادي المحامين ببغداد رحب الجواهري بهم في كلمات ثم ألقى قصيدته الشهيرة:
سلام على حاقد ثائر
على لا حب من دم سائر
و فيها:
و يا وفد مصر عليك السلام
سلام المواطن، لا الزائر
تمرون منا بذكراكم
مرور الحبيب على الخاطر
فقام بعده رئيس الوفد المصري، و هو شخصية مسيحية من حزب الوفد فقال ماذا يمكنني أن أقول بعدما سمعنا من جواهر الجواهري.
و نشرت القصيدة في جريدة الجواهري في اليوم الثاني، و كنت طالباً في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية، و كان الدكتور عبد الرزاق محي الدين يدرسنا البلاغة. و بعد انتهاء الدرس، وضعت الجريدة على منصة الأستاذ. فسألني: ما هذا؟ قلت هذه قصيدة جديدة للجواهري. قرأ أبيات متفرقة منها و قال: هذا صاحبك شاعر أموي.
و يقصد بذلك أن الجواهري شاعر من العهد الأموي - أي قديم - و كان الدكتور عبد الرزاق محي الدين يعتبر نفسه مجدداً.
مساء كنت في زيارة لدار الجواهري، و نقلت ما قاله أستاذي فقال: قل لأستاذك هذا (الكذا) أنا شاعر جاهلي. أي أنه يسبق العهد الأموي بشاعريته و ينتمي إلى العصر الجاهلي من حيث اللغة و الشكل الشعري.
* * *
هناك قصص و ذكريات عن الجواهري. و إن بعد هذه الأسطر عن النهج الأكاديمي يعطي تسلسلاً اعتباطياً لما أكتبه فلأتحدث عن مدينة ميونيخ (مينشن) الألمانية، إذ عقد في تموز 1963 مؤتمر الطلبة الكرد. و حضر الأخ "مام جلال" بنفسه، و كان على رأس الضيوف الجواهري الكبير و الصحافي اللبناني المعروف جبران الحايك، صاحب جريدة (لسان الحال).
كان الدكتور كمال فؤاد يدير المؤتمر، فقدم الجواهري الكبير الذي ألقى رائعته المعروفة:
قلبي لكردستان يهدى و الفم
و لقد يجود بأصغريه المعدم
من الطريف أن إدارة المؤتمر عهدوا إلى أحد الزملاء بمرافقة و مصاحبة الجواهري، و أظن أن اسمه غني طالب وهو كردي فيلي و يحفظ للجواهري و يعتبر نفسه أحد رواة الجواهري. كنّا في الفندق لليلة ما قبل المؤتمر ذهب الى الجواهري في مضجعه ليدعوه الى العشاء، ولكن الجواهري لم يفتح له الباب وطرده غاضباً، ويبدو أنه على غير عادته، يستعيد القصيدة في ذهنه و يضع عليها اللمسات الأخيرة وهو يغير بعض الكلمات كالعادة - وسآتي الى ذلك في هذه اللمسات .
عندما ألقى الجواهري قصيدته وسط التصفيق الحاد و المتواصل و الاستعادة، نهض الاخ مام جلال فشكر الجواهري وامتدحه وثمن عالياً أفكاره وشعره. وكان الحاضرون من الشيوعيين هم الطلاب وحدهم، فصاروا يلحون عليّ أن أتكلم أنا أيضاً، و غرضهم هو ذلك التنافس (الثارتي- الشيوعي) القائم في كل ساحة. لم أكن مقتنعاً بالتكلم ولكن الإلحاح و اللجاجة دفعاني للكلام . كنت أدرك أن مام جلال قائد و أحد الثلاثة البارزين في الثارتي، أما أنا فكنت عضواً في القاعدة. ولكنني نهضت وقلت: يا أبا فرات هذه معلقة خالدة، سنخلدها و نعلقها على كل جبل و في كل كهف في كردستان الثائرة . ثم تكلمت و أطلت نوعاً ما .
يبدو أن الجواهري راق له هذه الكلمات، و على غير عادته تكلم فبدأ بالأخ مام جلال و امتدح فصاحته و بلاغته و أنهى كلامه عنه بطريفة ( حمداً لله لم يكن عربياً فلو كان عربياً، وين ولى مهدي الجواهري؟) ثم تحدث عني و قال : ( أما عزي - العفو الدكتور عزي - فهو ابني خدن فلاح، أخوه ، و كفاه ذلك شرفاً).
انتهت الجلسة فإذا بي أسمع نقاشاً حاداً بين الطلبة الشيوعيين و البارتيين. الأولون أنه كان يقصدني بالفصيح و البليغ و الآخرون يقولون أنه كان يعني ( مام جلال ) فاستجاروا بي فقلت: إنكم لا تفهمون الجواهري فوصفي بابنه، و بكفاه ذلك شرفاً هو أعظم وصف عند الجواهري، ثم إنني قد نلت اول دكتوراه لي في 23/حزيران/ 1963 وهو ينعتني بعد شهرين بالدكتور و هذا يعني عند الجواهري ما يعني من اعتزاز بابنه هذا.
* * *
قلت إن الجواهري كان يغير بعض الكلمات أو بعض الكلمات من القصيدة بعد إنجازها . فمثلاً لذلك أتذكر أنه قرأ:
سمير الأذى و الظلام الرهيب
خلا الحيّ بعدك مــــــــــــن سامر
فيا جذوة الفكر ان العراق
فقير الى مؤمن فاكر
فصاح عامل (رث الثياب) في القاعة: يا أبا فرات هنالك (هواية مؤمنين فاكرين في العراق) فأعاد الجواهري البيت مغيراً (إن العراق، حريص على مؤمن فاكر). فسألته ذات المرة عن هذه البيت، إن هناك من يقولون: (إنك قلته في الرفيق فهد ) فأجاب: (و الله إذا لم يكن له بالذات فللفكرة ذاتها).
و عن القصيدة نفسها أتذكر أنه قرأ:
يسير و يعلم أن الطريـق
لا بــــــــــــــدّ مفض الى أخر
فلما نادوا (أعد ... أعد) غيرّ البيت مباشرة الى:
يخب و يعلم أن الطريق
لابــــــــــــــدّ مفض الى أخر
فكيف يجرأ واحد مثلي، أو كرديّ مثلي أن يقول: أن (يسير، أجمل وقعاً. مع أن (الخبب) أكثر سرعة من (السير) هناك نماذج أخرى لذلك لا أتذكرها الان، سأدونها إن تذكرتها خلال كتابة هذا السفر. كان هناك بيت في هذه القصيدة قرأت في القراءة الأولى:
سلام على مثقل بالحديد
و يشمخ كالقـــائد الظافر
كأن الحـــــديد على كفه
مفــــــــاتيح مستقبل زاهر
فجعله في القراءة الثانية ( كأن الحديد على معصميه).