TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: ثقافة عراقية أم أفرادٌ مثقفون؟

تلويحة المدى: ثقافة عراقية أم أفرادٌ مثقفون؟

نشر في: 18 ديسمبر, 2009: 04:50 م

شاكر لعيبييمكن أن يُطرَح السؤال عينه بصيغة أخرى: ثقافة عربية أم أشخاصٌ مثقفون؟. سنظلّ نبحث في الحالة العراقية بسبب زعمنا أننا نعْرِفُ تفاصيل محدّدة في سياق تطوّر البلد منذ نهاية القرن التاسع عشر وتأسيس الدولة العراقية الحديثة. لنقلْ في البدء إن المفردة (ثقافة)
 مشحونة عموماً في لاوعينا بمعنى عالٍ ومشرق. لذا يتوجّب اقتراح تعريف لمفهوم الثقافة لكي نرى فيما إذا توجد ثقافة في سياق تلك الدالة الإيجابية للمفردة أم يوجد، في الحقيقة، مثقفون أفرادٌ لا يؤسسون بالضرورة لحالةٍ ثقافيةٍ عاليةٍ عامّة. حسب التعريف الذي تقدّمه منظمة اليونسكو فإن الثقافة بمعناها العريض تُعتبر: "مجموع السمات المتميّزة، روحياً ومادياً وفكرياً وعاطفياً التي تسِمُ بميسمها مجتمعاً أو فئة اجتماعية. سوى الفنون والآداب تنطوي الثقافة على نمط الحياة والقوانين الأساسية للكائن البشري وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات". ويتنبه تعريف اليونسكو إلى أن ما نسميه (المجموع) يشير بداهةً في (نظرية المجموع) إلى تشكيلة الحاجيات المسمّاة بالعناصر. وبعبارة أخرى فإن هذا التحديد للثقافة الذي يَعتبر الآداب والفنون مجرّد عنصرين من بين عناصر تأسيسية كثيرة أخرى لها، يدفع للتأمل فيها على اعتبارها في المقام الأول نمطاً للعيش وأنساقاً للقيم والتقاليد والمعتقدات. وهذه كلها تشتغل صُراحاً على نطاق عريض في جُلّ مفاصل الحياة الاجتماعية وغيرها، بينما لا تشتغل الآداب والفنون إلا في نطاق النخب الضيقة. على المستوى العراقي لن يختلف اثنان، كما نأمل، على أن أنساق الحياة والمعتقدات والقيم ما زالت تنهل الكثير من مصادر عفا عليها الزمن: القبيلة على سبيل المثال الواضح، وقيمها الروحية وسبل تدخلاتها القوي في الحياة الشخصية والقانونية للأفراد. يقدِّم الشعر الشعبي العراقي، المنتشر والمحبوب، أمثلة ونماذج جديدة بارزة، لجهة استناده الى معايير الماضي تعبيراً ومفاهيمَ. هذه المعايير هي الاسم الآخر للثقافة العراقية ضمن تحديد اليونسكو أعلاه للثقافة في الأقل. لا تبرز هذه المعايير بوضوح كافٍ في بعض الممارسات الثقافية رغم أنها تتدخل أحياناً كثيرة حتى في عمل النخب المُنتجَة للآداب والفنون عالية المستوى، بصيغٍ معقدة ومقنّعة. على المستوى التاريخي اصطدمت النخبُ الأدبية نفسها مع (الثقافة العراقية)، وأحدث ارتطامها دويّاَ هائلاً. فلم يكن الجواهري سوى شاعر متمرّد بارز على (ثقافة) مدينته النجف عانى ما عانى منها. كما أن النقد والتجريح والسخرية التي تعرَّض لها معظم رواد الشعر الحديث في العراق، بدءاً من روفائيل بطي، ليس سوى تمظهر من تمظهرات اصطدام (الثقافة) العراقية بالتجديد الشعري الذي حاولته، بجرأةٍ، النخب المتعلِّمة والمتنوِّرة. ويمكن وضع الإعجاب الجماهيري الذي حازه برنامجٌ شهير للغوي مصطفى جواد في نطاق الطرفة التي تستمتع بها (الثقافة) أكثر مما إلى المعرفة الحقّ بمنجزات (مثقفٍ) من أبنائها. هذه محض أمثلة لا يسَعُ المقام بإيراد المزيد منها. وقد يكون تاريخ (الثقافة) الحديث برمته في البلد شاهداً على الفرضية. من نافلة القول التذكير أن (الثقافة) العراقية لا تستمدّ نسغها الراهن، إلا على نحو صعبٍ، من تاريخ الحضارات الرافدينية. بين التجمّعات والجمعيات والصالونات الأدبية المتنوّرة التي طلعت في بغداد والنجف والموصل والبصرة وبين (ثقافة) الشرائح العريضة كانت توجد أشواط بعيدة. من البداهة أن نتذكر أن البلد شهد صعود أسماء كبيرة، فلنطلق عليها الآن اسم (المثقفين)، في كل حقل: الحبوبي، الكرملي، الرصافي، الزهاوي، كوركيس عواد، يعقوب سركيس، طه باقر، أحمد سوسة، عبد الجبار عبد الله، بدر شاكر السياب، عائلة الملائكة، عزيز علي، مير بصري، محمد بهجت الأثري، محمد شكري الآلوسي، جلال الحنفي، جواد سليم، محمد مكية، شاكر حسن السعيد، مجيد خدوري، سليم طه التكريتي، علي الوردي، شاكر مصطفى سليم، فيصل السامر،.... إلخ. في يومنا الحالي أيضا ثمة جمهرة من المثقفين البارعين في كل حقل، لكن من البداهة نفسها أن يكون هؤلاء (المثقفون) على مسافة معتبرة مع (ثقافة) الشرائح الموصوفة، وكان بعضهم مرفوضا أو غير مفهوم, ومنهم من لم يُقـْبل ثقافياً إلا بعد وقت طويل، والبعض الآخر لن يُقبل أو يكرّم إلا بعد وقت آخر، الأمر الذي يسمح بالحديث بالأحرى عن "مثقفين عراقيين" كبار أكثر من الكلام عن (الثقافة العراقية) بالصفة الممنوحة للكثير من سمات المجتمع العراقي الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المُتنازَع على طبيعتها العميقة. في اللحظة الراهنة، فإن جميع أشكال الفساد والرشوة والاقتتال والخصومات السياسية والأدبية والألقاب والكثير من الشعائر والمفردات المستخدمة يومياً والتقاليد الأدبية وأساليب السجال والتقسيمات العشرية للأجيال وتزوير الوثائق الجامعية والنميمة والغيرة والنزعة الإبكائية في الغناء وتدمير الممتلكات العامة وسرقة النفط ولهجة بعض الفضائيات والنزوع العاطفي المتطرف سلبا أو إيجاباً..... إلخ- وهذه كلها إرثٌ له امتدادات ثقافية في مكان ما من الذاكرة الاجتماعية وليس وليد اللحظة فقط كما يُقال لنا عادة- تعزز من وجود ثقافةٍ عراقية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram