TOP

جريدة المدى > عام > الشاعر الجيد

الشاعر الجيد

نشر في: 15 فبراير, 2015: 07:12 ص

-3-
(آمنة الجصاني) كنّا نسميها (أم نجاح). هي أخت زوجته الأولى (أم فرات)، وأخت المربي المعروف (جواد الجصاني). زوجته الأولى توفيت عن (فرات و فلاح و أميرة)، فتزوجها الجواهري. وهي خير (زوجة أب) رأيتها أو سمعت بها. راعت أولاد أختها، وأنجبت للجواهري كلاً

-3-

(آمنة الجصاني) كنّا نسميها (أم نجاح). هي أخت زوجته الأولى (أم فرات)، وأخت المربي المعروف (جواد الجصاني). زوجته الأولى توفيت عن (فرات و فلاح و أميرة)، فتزوجها الجواهري. وهي خير (زوجة أب) رأيتها أو سمعت بها. راعت أولاد أختها، وأنجبت للجواهري كلاً من (نجاح وكفاح وخيال وظلال)، وتهتم با لجواهري وتوفر أجواء له للإبداع. كانت تقول: يكتب الجواهري الشعر في وضعين، قصائده الطويلة المتنوعة، المشهودة، يدخل من أجلها الفراش ويغطي رأسه ويبدأ يتمتم ويحدو مثل (حادي العيس)، وقد تطول ولادة أو (مخاض) القصيدة ليلتين. ويبقى دون طعام أو شراب، ولا تسمح أم نجاح لأحد بإزعاجه أو الاتصال به مهما بقيّ متغطياً بلحافه إلى أن تنتهي القصيدة، والجواهري يحفظها، ثم يخرج من الفراش ويدون القصيدة، أما الأسلوب الثاني عند الجواهري للنظم فهو تعبه وإرهاقه مع مطلع القصيدة (أي البيت الأول) فهو يأتي به ويغير ويحوّل حتى يستقر فكره على المطلع، ثم تتوالى الأبيات جميلة ورصينة. وهو رغم (علوّه) يسأل بعض المتذوقين عن المطلع. وأتذكر ان الشاعر المبدع الراحل كاظم السماوي كان يروي أن الجواهري كان يسأله عن مطلع قصيدته (خلفت غاشية الخضوع ورائي) فيقول كنت أقول له (لا يا أبا فرات)، حتى تلي عليه هذا المطلع فقلت له (نعم يا أبا فرات، هذا هو، هذا هو) فثبته، وأنهى القصيدة وهو في طريقه الى الشام لحضور تأبين عدنان المالكي.
ومن الذين كان يسألهم أتذكر صديقي الراحل المحامي رشيد بكتاش.
ومن المفارقات أن الجواهري كان يحفظ أشعاره جميعاً وأشعار الشعراء الذين يحبهم، بينما كان شاعر عبقري أخر لا يحفظ بيتاً من شعره أو من شعر الآخرين، وهو شاعرنا عبد الله طوران.
وكان الجواهري وفياً لزوجته، فقد رثى من أعماق قلبه وشعره (أم فرات)، ثم رثى أم نجاح التي فارقتنا قبله، فعلى ضريحها في دمشق قال: ها تلك أمونة ننأى ونفترق.
* * *
كتبت – ما يشبه الخاطرة عن الراحلة الشهيدة الدكتورة حياة شرارة -لم ينشر بعد -وفيه (أي في ما يشبه) أنها أصيبت برعب (يشبه الرعب الذي أصيب الجواهري في أيامه الأخيرة) و قصة هذا الرعب يجب أن تروى أيضاً.
في براغ قلت له: عندما خرجت من العراق، كان الجميع ينتظرون أن تقول في صدام مالم يقله المتنبي في كافور الاخشيدي. فأجابني: عزي أني عندي رهائن في العراق. إذ كان فرات في بغداد وابنته أميرة وزوجها عيسى الجواهري، ابن أخ الجواهري أبو رائد، في بغداد. فهل بقوا بإختيارهم أم أبقوهم حقاً رهائن ليتجنب الجواهري هجاء صدام؟ انتظر رداً من آل الجواهري.
في براغ رأيته مرة في مخزن كبير، مسكته من خلف، والتفت فلما رآني قال (ولك انخرعت).
أريد ان اكتب هنا عن الجواهري، مالم يكتب عنه فمن قصيدته عن هاشم الوتري، روى لي، وروت أم نجاح انه كان الجواهري في باريس وعاد الى بغداد وفي المطار تقرب منه أحد الموظفين وقال له: عمي صلبوهم، فقلت: نعم ابني اعرف. وكان الموظف يقصد إعدام الرفيق فهد ورفيقيه قبل ايام. بدأ الجواهري يدندن في الدار ونظم في مخيلته بعض الأبيات، رنً تلفون الدار فإذا به الدكتور خالد ناجي، صاحب مجلة (العيادة الشعبية)، وقال له: أستاذ، صديقك الدكتور هاشم الوتري منح زمالة الكلية الملكية البريطانية، وسنقوم بحفل تكريم له يحضره (سيدنا) و (الباشا) (ويقصد عبد الإله، الوصي، ونورى السعيد). قال الجواهري: كنت انتظر فرصة لألقي بعض ما في وجداني وخاطري وقلت له أهلا بك وبالدكتور الوتري وبسيدنا والباشا.
نظم الجواهري أبياتا تخص المناسبة والحق بها ما في ذهنه وعواطفه.
كان الدكتور هاشم الوتري عميد الكلية الطبية العراقية، وقد سهر في وثبة كانون الثاني 1948 في المستشفى يعالج جرحى الانتفاضة (وقضيت ليلا نابغيا ساهرا) وبعد هذه المقدمة (الوطنية بحضور سيدنا والباشا) يقول:
نبئت إنك لست تبرح عني سائلا؟
عما تناشد ذاهبا او ايبا
وتقول كيف يظل نجم ساطع؟
ملأ العيون عن المحافل غائبا
الان انبيك اليقين كما جلا
(قالوا ان الجواهري سكت ولكن)
وضح((الصباح)) عن العيون غياهبا
كذبوا فملء فم الزمان قصائدي
أبداً تجوب مشارقا ومغاربا
تستل من اظفارهم وتحط من اقدارهم
وتثل عرشاً كاذبا (او مجداَ كاذباَ)
انا حتفهم، الج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
هنا قام نوري السعيد وأراد ان يخرج، بل يقال انه خرج، ونظر الى الدكتور خالد ناجي وقال: انتم ما جايبين هذا ليمدح صاحبكم، بل ليشتمنا.
وكان الجواهري قد همس قبل خروجه من الدار في اذن (أم نجاح) بما ينوي ان يفعله، فقالت أم نجاح، (عوافي أبو فرات، عوافي). وهيأت له الفراش لأنها تعرف انهم سيعتقلونه. 
اعتقل الجواهري لبضعة أيام، وروى لي شاعرنا الكبير الراحل احمد هردي، انه كان معتقلا في (التحقيقات الجنائية -الأمن العامة) وانه في غرفة قريبة من غرفهم، ولكن بهجت العطية، المدير العام للتحقيقات الجنائية، أمر الجلاوزة بإيقاف ضرب المعتقلين وتعذيبهم مدة توقيف الجواهري اذ قال: قد يسمع الجواهري صوت الكرباج وأنين المعتقلين فيثور ويكتب عنا شعراً سيئاً، وكان ما كان.
وعن إلقائه هذه القصيدة في تكريم الدكتور هاشم الوتري، سمعت بنفسي من الجواهري يقول: كل عمري ما نادم على وحدة (اي شيء ما) غير هذا، فما كان عليّ ان اذهب مادام (سيدهم) و(الباشا) موجودين.
* * *
في قصيدته (قلبي لكردستان) أبيات يخص بها ( بارزاني الخالد):
باسم الأمين المصطفى من امة
يوم التخاصم باسمه يقسم
وفي مناسبة بعد الحادي عشر من آذار، وكانت الحركة الكردية في هدنة مع النظام، قرأ الجواهري هذه القصيدة ولم يقرا الأبيات التي تخص بارزاني، وبعد المناسبة دعاه اتحاد الأدباء لأحد المطاعم مع وفد لبناني، وشرفونا انا وسعدي يوسف بحضور الدعوة. 
وكنت جالساً قربه وأدمدم بأبيات له كتبها عن الشهيدين سلام عادل وجمال الحيدري:
سلام وما أنا راع ذماما
إذا لم أسلم عليكم لماما
سلام أحبة شعب نياما
سلاماً: ضريح يشيع السلاما
يعانق فيه جمال سلاما
الى يوم يؤذن شعب قياما
الى يوم يؤذن فجر نشورا
يهز الدنى، ناسها والقبورا
سيقدمه رائدُ اذ يرود
ويخلف فيه اباه سعيد
وسافرة سترب النسورا
توفي ((أبا العيس)) فيهم نذورا
كان الجواهري يقول لي: اسكت عزي، اسكت عزي. فأعدت الدمدمة بخفوت عدة مرات، وفهمني طبعاً وقال: ما دام قد وضع السلاح جانبا، أي الهدنة، فالأبيات ماكو، وإذا أعاد رفع السلاح فالأبيات تعود وتكون أكثر مما هي. 
بعد ايام من إلقائه قصيدة (سلام على حاقد ثائر) في نادي المحامين، استشهد المناضل نعمان محمد صالح في السجن، إثر إضراب طويل عن الطعام، وقد شيعت جنازته من دارهم في محلة (قرة شعبان) الى مقبرة الشيخ عمر، واجتمع حشد كبير من الناس وكان الجمع يزداد كلما اقتربنا من المقبرة، ولم أجد من قادة الأحزاب الوطنية العلنية غير الأستاذ حسين جميل، من قادة الحزب الوطني الديمقراطي ونقيب المحامين، وهو يسير في الصف الثاني من المشيعين.
بعد التشييع هتف شخص في الظلام: (ايها الرفاق اهتفوا معى ثلاث عاشت ذكرى رفيقنا الراحل)
كان المرحوم بحر العلوم يقف عند الضريح جنب الجواهري وكان الجمهور ينادي: تفضل ابا فرات، تفضل ايها الجواهري، والجواهري ساكت، وكان بحر العلوم يقول لمن حوله: يا جماعة هو الرجل ما يريد يلقي شتريدون منه، وتقدم بحر العلوم وألقي ابياتا مرتجلة:
هذا نصيبك وهو فجر
وكان التفجر من نصيبي
نعمان لا عاشت يد
ان لم تنل لك ألف ثأر
الح الناس على الجواهري فتقدم والقي ابياتا من قصيدته التي نوهت عنها وألقاها في نادي المحامين، ويبدو ان تردده في التقدم لإلقاء الشعر هو عدم وجود شيء قيل في يومه، ولكنه كتب في جريدته في اليوم الثاني مقالا افتتاحيا بعنوان -جنازة - يعتبر من روائع الجواهري في النثر، وللجواهري نثر رائع، اتذكر عناوين كثيرة منه، الا ياليت من يأتي ويتمكن من جمعه. وفي المقال مجد الشهيد وانتقد الأحزاب الوطنية لعدم حضورها في التشييع.
لم تتعرض الشرطة للموكب، ولكن ما ان خرجنا من المقبرة حتى بدأ إطلاق الرصاص في الهواء فنادى أحدهم: (أخوان، رفاق، نرجو التفرق كي لا يحدث ما يسيء للتشييع الرائع) فتفرق الجمهور تدريجيا.
* * *
قلت ان هذه الذكريات ليست متسلسلة ومبرمجة، فلأسجل ما جاء بخاطري الآن.
في سوريا وفيما سمىّ بالعهد الديمقراطي حقاً. (1954 – 1959) كان الحزب الوطني في الحكم، ورئيسه صبري العسلي رئيساً للوزراء. وكان رئيس الجمهورية هو السيد شكري القوتلي. وكان للحزب الشيوعي وجود علني (غير رسمي) ونائب واحد في البرلمان (هو الرفيق خالد بكداش). وكان دوره في البرلمان أكثر من دور عشرة نواب.
جرى تحول في قيادة الجيش فأصبح الفريق عفيف البزري رئيساً لأركان الجيش، ومعه أمين النفوري وأحمد عبد الكريم ومحمد زلفو. وكانوا محسوبين على الشيوعيين أو الشيوعية عامة. وكان معهم العقيد محمد حنيدي، وهو وطني له عقيدة إسلامية (وهو من دير الزور) كان الجواهري قد بقي بعد تأبين المالكي في سوريا، إذ كان قد سافر الى الشام بدعوة من الجيش، وبقي هناك فعيّن رسمياً رئيسا لتحرير مجلة (الجندي) (مجلة الجيش)، وهو تعيين تكريمي ليمنح راتباً وكان يجلس أحياناً في غرفة (رئيس التحرير) ويستقبل الضيوف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

ليلة مع إيمي

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram