TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين سابقتين

بين سابقتين

نشر في: 22 أكتوبر, 2012: 07:07 م

لطالما أحببت ورددت قول الحسن البصري" ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر". فهو كلام مختلف ومنشق عن اتجاه ثقافتنا المولعة بالفخر الذاتي والنابذة للنقد الذاتي.

وهو بنظري يصلح لأن يكون مقياسا للأفراد والشعوب، يفشل فيه من كان معتدا فخورا وينجح الحذر الخجول. ولكن ماذا نقول في المتنبي الذي أوصل الفخر الذاتي الى أقصاه في أشعار كثيرة شهيرة من مثل:

وما الدهر الا من رواة قصائدي/ إذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا

انه بيت عبقري في تصوير سمة بارزة من سمات العقلية العربية، هي الفخر الذاتي، "الواصل" الى جنون العظمة أحيانا. سمة رديئة قطعا ولكن المتنبي بلغ غاية الجودة في تصويرها. وفي دراسته الشهيرة عن ابي الطيب شخص بلاشير المفارقة السائدة في شعر صاحبنا بين فن رفيع وفكر رقيع، قائلا انه "ألبس أتفه المعاني أثوابا ملكية". وكانت "المَلَكية" ستكون من نصيب الثوب والمعنى معا لو كان رأي البصري سائدا وجاء شعر المتنبي سابحا في تياره.

ولكن واقع الحال أن فكر المتنبي هو التيار السائد، وفكر الحسن البصري هامشي رغم أنه "أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء" كما وصفه الغزالي. ولو كانت المعادلة مقلوبة لما كان للأصولية دور مقبول في السياسة. فلهذا الإمام الجليل سابقة "علمانية" أولى من نوعها في تاريخنا العربي الاسلامي. جاءه يوما رجل من الخوارج وسأله: ما تقول في الخوارج؟ أجابه: هم اصحاب دنيا. رد "الخارجي" عليه مستغربا::" ومن أين قلت هذا، وأحدهم يمشي في الرمح حتى ينكسر فيه ويخرج من أهله وولدِه؟ قال الحسن: حدثني عن السلطان أيمنعك من اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة؟ أجابه:لا. قال الحسن: فأراه انما منعك الدنيا فقاتلته عليها".

وواضح أن الدنيا مقبلة على وزير الكهرباء كريم بن عفتان. فقد أصدرت وزارته كتابا عنوانه (لقاءات وزيارات معالي وزير الكهرباء خلال عام من تسنمه المسؤولية)، مؤلف من 64 صفحة فيها 148 صورة، أي بمعدل 3 صور ونيف في كل صفحة. وهذه سابقة أولى من نوعها في تاريخ الوزارات العراقية والإقليمية والدولية. وما كان لهذه السابقة أن تخرج من بحار الأنوار وتفيض على سطح اليابسة لو لم يكن الرجل تلميذا نجيبا في مدرسة "العلم نورن".

والدرر التي بدأنا حديثنا عنها، وتمثل الوجهة الانسانية المهمشة في موروثنا، كثيرة غزيرة، وترد الروح فعلا، لولا ان تهميشها من قبل جماعات "العلم نورن" يعود فيسلب الروح. ومن تلك الدرر قول ابي يزيد البسطامي:" لا يزال العبد عارفا مادام جاهلا، فإذا زال جهله زالت معرفته". ونصيب فكر هذا المتصوف العظيم من التهميش ليس أقل من نصيب سلفه البصري، لدرجة أن تلميذا صغيرا له كان "يختلف" معه، الى أن أخرجه يوما عن طوره وقال له:" يا هذا، والله اذا وافقتني كنت ثقيلا علي، فكيف إذا خالفتني؟!".

ولعل السياسيين على رأس قائمة المخالفين لنظرة البسطامي في المعرفة. في احدى مسرحيات شكسبير ترد هذه الشتيمة:" ولتدعي كالسياسي الحقير معرفة كل شيء". وهي شتيمة ليست من دون أساس. ذلك أن "ديدن" السياسي هو الصاق المحاسن بنفسه خاصة المعرفة والفضيلة. وكلما كثر هذا الديدن في الساسة شاعت بين أقوامهم يقظة الهوى ورقدة العقل. ومنذ نهضة الإسلام الى وقعته السودة على يد طالبان، لم ألحظ أرقد من عقل كريم بن عفتان. والعوض بتصاويره عن رقدة بلا يقظة للكهرباء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ضياء الجصاني

    اقترح على اعلاميي وزارة الكهرباءالبسلاءتوزيع هذا الكتاب القيم على المواطنين بعد اضافة تكاليفه (الحقيقية ) الى قائمة الكهرباء ليعرف الناس ان تيار النفاق الرخيص في الوزارة الفاشلة هو البديل عن تيار الكهرباء وعليه العوض ومنه العوض.

  2. ابو حسين الخزعلي

    سبقه الملهم القائد الضرورة هدام قبل سقوطه وصولاغ اثناء توليه المالية حيث اصدر كتابا عن نشاط وزارة المالية يحتوي على اكثر من 100 صورة لهتعكس عبقريته في ادارة الوزارة

يحدث الآن

بغداد قد تتراجع عن قرار سحب القوات الأمريكية: عربون الصلح مع ترامب!

دعوات الإصلاح والتغيير تتصاعد.. هل تبدأ بغداد رحلة التعافي؟

10 آلاف عقد في الإقليم يواجهون "مصيراً مجهولاً"

فورين بوليسي: الإحصاء كشف عن ثروة أيدي عاملة في العراق

الوزارة توضح سبب زيادة انقطاع التيار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: تذكروا أنكم بشرٌ

العمود الثامن: محاكم تفتيش نقابة المحاميين

العمود الثامن: كلمات إماراتية واطلالة عراقية

" البعث" بدِمشق وبَغْداد.. غساسنة ومناذرة

العمود الثامن: السخرية على الطريقة العراقية

العمود الثامن: محبة المسيحيين

 علي حسين قبل أن تصدر القرارات القرقوشية لبعض المحافظات بمنع الاحتفال بأعياد الميلاد لأنها "حرامس"، وكان اخرها القرار الثوري لمجلس محافظة كربلاء الذي حذر فيه وتوعد كل من تسول له نفسه وضع شجرة...
علي حسين

قناطر: العربيُّ من الأحواز: يعبرُ ولا يسافر

طالب عبد العزيز يتصل بي صديقي العربي الذي يسكن مدينة الفلاحية بإقليم الاحواز قائلاً:" باچر أعبر" فأتنبه الى أنه لم يقل:" أسافر، أو أحصل على تأشيرة سفر، بل لم يتحدث عن حقيبة ومتاع، أو...
طالب عبد العزيز

موقف الحزب الشيوعي العراقي من المنظومة السلطوية في العراق والتغيير المطلوب..

د.كاظم المقدادي للحزب الشيوعي العراقي موقفه المُعلن والمتميز من مطلب التغيير الجذري للمنظومة السلطوية في العراق.وهو موقف مسؤول ومبدأي، ومدروس جيداً، ومتابع من قيادته بإهتمام ومثابرة..تأريخياً، يُعتبر الحزب من أوائل المنادين بالتغيير الجذري.وقد أقر...
د. كاظم المقدادي

عن الأدمغة العربية المهاجرة

عبد الكريم البليخ يُظهر التنقل بين الدول العربية ودول العالم الأخرى حقيقة مؤلمة تكشفها المشاهد اليومية. أعداد كبيرة من المثقفين وأصحاب العقول المتميزة في المنطقة العربية لم يعد لديهم مكان في أوطانهم أو في...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram