ناظم عودةالمواد التالفة : كيف يبني أحمد شوقي قصيدته؟ ذلك هو السؤال البسيط الذي ترغب هذه الدراسة في الإجابة عنه. لكن الإجابة ليست ببساطة التساؤل، فثمة أدوات ومواد، يُجهِد الشاعر نفسه في جمعها لإنشاء العمل الشعري. غير أنّ القارئ لا يلحظ عملية الجمع والتحضير، بل يلحظ العمارة الشعرية وقد بسطت أطرافها على الورق.
وعندما كان القارئ يحيا في عصر الإنشاد الشفاهي، فإنّ هندسة القصيدة كانت تتمثل تمثلاً متخيلاً في ذهنه.قفْ بروما وشاهدِ الأمرَ واشْهدْ أنَّ للمُلكِ مالكاً سُبحانَــهْ دولةٌ في الثري وأنقاضُ مُلْـكٍ هَدَمَ الدهرُ في العلا بنيانَــهُ مزقتْ تاجَهُ الخطوبُ وألقـتْ في الترابِ الذي أري صولجانَه طللٌ عند دمنةٍ عنــد رسـمٍ ككتابٍ محا البِلي عنوانَــهْ إنّ المواد اللغوية والأسلوبية التي يتلفها الشاعر، والمواد التي يُبقي علىها، تُعَدُّ إرشيفاً سيكولوجياً، مفعماً بالإشارات، ولا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً. لقد كانت الدراسات الشعرية لا تملّ من الخوض في مسائل جدّ معقدة في الشكل والأسلوب واللغة والبلاغة والدلالة والإيقاع، والى ما هنالك من عناصر ظاهرة في شكل القصيدة. لكن البحث عن أثر ذي معني في المواد التالفة لم يكن ليحظي بالعناية ذاتها من لدن الدارسين التقليديين. بعكس الدراسات الحديثة، التي باتت تقف بريبة أمام تلك المواد، في محاولة للبحث عن المركز الحقيقي للنصّ. موجهات خارجية في قصيدة (رومة) يكشف أحمد شوقي النقاب عن بعض هذه المواد، ولا يعني ذلك أنّ هذه القصيدة وحدها التي تنطوي على تلك المواد المحفزّة على النظم، أو ما يمكن أن نطلق علىه (التاريخ المنسي) لنشأة القصيدة، وإنما لكل واحدة تاريخها المنسي. بوسعنا أن نصف أحمد شوقي نفسه بأنه مملكة شعرية مترامية الأطراف، لها إهراماتها البلاغية، وأجراسها التي لا تكفّ عن الإنشاد في حضن الطبيعة والتاريخ. ولأنه كذلك أراد أن يعلن على رؤوس الأشهاد أن (الشعر ابن أبوين: التاريخ والطبيعة) (ص 230 الشوقيات، ج1 ـ مكتبة التربية ــ بيروت ــ 1994). وعندما نطق أحمد شوقي بهذه الفرضية فإنه أدلي بها في سياق رسالة شخصية أرسلها الى صديقه المؤرخ (إسماعيل بك رأفت)، بعد أن طاف في بلاد الروم وأبصر ما فيها من آثار ومآثر. كما يصرّح في رسالته أيضاً عن باعثٍ آخر على نظم هذه القصيدة، فقال موجهاً كلامه الى صديقه المؤرخ: فوقفت أتأمل ذا الجدار وذا الجدار، وأنشد ذلك القصر وتلك الدار، الى أن ثار الشعر... فنظمت، وكأني بها في يديك تقرأ (ص 230). ولكن علىنا أن لا نطمئن كثيراً الى ما يقوله أحمد شوقي، فبواعث النظم المضمرة تحوط نفسها بحجب ليست شفافة في أحيان كثيرة، تختبئ عيون الشعر خلف تلك الحجب، وتختبئ مقاصد الشاعر الحقيقية أيضاً في المكان نفسه. فالقضية إجمالاً، ليست نظم قصيدة بالنسبة لأحمد شوقي، بل تدوين مواقفه مما وقعت عيناه علىه من آثار تاريخية. تأويلات شرقية يعطي أحمد شوقي أربعة تفسيرات لما جري لامبراطورية الرومان، لكنّ هذه التفسيرات لا تستند الى حجة عقلية، وإنما تخضع لعوامل ثقافية ودينية وزمانية وسياسية لا تقترن اقتراناً مباشراً بانهيار هذه الامبراطورية. ولأنّ هذا الشاعر من الشرق، والقصيدة عن الغرب، فإنه ينقل الى هؤلاء القوم حكمة الشرق في تفسير الوقائع التاريخية الكبري؛ حكمة الشرق الموروثة التي تري أنّ قويً غيبية تكمن وراء ذلك، وأحمد شوقي الشرقي المسلم، يرى أنّ تلك القوى ما هي إلا المشيئة الإلهية. لو كان الغرب يفسّر حدثاً شرقياً كبيراً، فمن المؤكد أنه لا يميل إلا الى حجة مادية وعقلانية وموثوقة بوثيقة، تدعم التفسير. لعلّ أحمد شوقي يرغب في مناكدة الغرب، نكايةً بموقف حضاري غربي من الشرق عموماً، كأنه يرجّح الرأي الذي يرى أنّ الأيام دول، وهو رأي ومعتقد شرقي إسلامي لاشكّ في ذلك، وما سُنَّة التغيير إلا سُنَّة إلهية. ولذلك فإنّ أحمد شوقي، لا ينقل خبراً، بل يقرّر حالاً، ويطلب من القارئ أن يؤمن به. وتعضيداً لهذا الطلب الشرقي الذي يوجّه الى قارئ غربي بالضرورة، فإنّ أحمد شوقي يضاعف في جملته الشعرية التي يفتتح بها قصيدته الأساليبَ الشرقية في الخطاب الشعري: قِفْ (عادةُ الشعراء الجاهليين في استيقاف الصحب)، اشهدْ (الشهادة الركن الأساس. للتعبّد والإيمان)، المُلْكِيَّة الإلهية للمُلْك (قلِ اللهمَّ مَلِكَ المُلْكِ، تُؤتي المُلكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تشاءُ وتُعِزُّ مَن تشاءُ وتُذلُّ مَن تشاءُ بيدِكَ الخيرُ إنكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ/آل عمران/26)، كلمة التنزيه الإسلامية (سبحانه). وهكذا، فالتفسير، كما يبدو مما قلت آنفاً، هو وجهة النظر الإسلامية الشرقية لانهيار مُلكٍ، ونشوء مُلك آخر مكانه. ويتبين من خلال قصيدة أحمد شوقي، أنه استدرك على ما قاله في البيت الأول، فأضاف تفسيراً (زمانياً) لكي يلج الى القارئ الغربي المفترض من مدخل ثقافته الراسخة، ويُقنِعه بأنّ الوجود له دورة لابد أن تُستكمل، وهكذا فإنّ هذا التغيير الذي حدث للمُلك الروماني هو من فعل الطبيعة، وبذلك يضمن أحمد شوقي الشاعر الشرقي، الذي قضّي في بلاد الغرب شطراً من حياته، قناعةَ القارئ الغربي ويرضي فضوله الثقافي. بل يرضي نزعة شائعة في الغرب، تفسّر الأشياء بما فيها الدين والإله تفسيراً طبي
أحمد شوقي والصراع البلاغي للحضارات الدهشة في مملكة شعرية مترامية
نشر في: 18 ديسمبر, 2009: 05:28 م