إحدى الجمل المشهورة لرئيس الحكومة البريطانية الأسطوري، وينستون تشرشل تقول: "من يريد النظر إلى مدى بعيد في المستقبل، عليه أن ينظر أولاً إلى الماضي بشكل رجعي." الوصية/الدعوة تلك أخذها على عاتقه وبشكل ممتاز كأنه تبناها الألماني فولغانغ كيريغير، مؤرخ وبروفيسور في التاريخ الألماني الحديث، في كتابه الصادر الجديد عن دار النشر الألمانية المعروفة (بيك). كما صدر له قبل فترة قصيرة كتاب " تاريخ الخدمات الأمنية"، والذي يبحث فيه عن تاريخ الأجهزة الأمنية في العالم لدرجة أنه يعمل مسحاً شاملاً، أو كما يقول الألمان "يعمل قوساً كبيراً" لتاريخ المؤسسة الأمنية هذه التي تثير الرعب عند من يسمعها، لما تحمله من غموض وتهديد، من "الفراعنة في مصر حتى جهاز الأن أس أي في الولايات المتحدة الأميركية".
"التعرف على حياة العدو" هو الشعار الذي رفعته كل الدول في العالم، كما أنه حمل لها أهمية كبيرة، وغالباً ما كانت مهمة انجاز ذلك من الأولويات التي لابد أن تقف على رأس قائمة الانجازات اللوجستية، أو على رأس قائمة الميزانية العامة لكل دولة. أو كما يقول البروفيسور الذي لم يخل بحثه من التشويق، شكل ذلك "نواة نجاح الدول" واستمراريتها في الوجود، ليس في الأزمان الخطرة، أزمان الحروب والعداوات بين الدول، لأن ذلك أمر طبيعي ومفهوم، بل حتى في أيام السلم والصداقات، بل حتى في حالة الأحلاف. ألم تتنصت الأجهزة الأمنية الأميركية على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل؟ وهل هناك أكثر حليفة وصديقة للأميركان من سيدة أوروبا رقم واحد بدون منازع؟ الأجهزة الأمنية التي سجلت كل مكالماتها من تلفونها النقال ولسنوات طوال، أرادت أن تعرف كل صغيرة وكبيرة عنها، حتى نوع الطبخات التي تحبها، المعكرونة والسباغيتي خاصة واللذين – على فكرة - تطبخمها بيدها!
بعض الأحيان يكاد التجسس أن يصبح وبالاً على البعض، كما يروي البروفيسور كيريغير ما حصل للأكسندر الكبير. في كل فتوحاته وغزواته اعتمد الأكسندر الأكبر على التجسس، وكان لا يتحرك إلا بعد أن يكون جواسيسه قد جمعوا له ما يكفي من المعلومات. وما كاد أن يكون عليه وبالاً تقريباً، "هو ظاهرة مرضية مميزة لكل المهنة"، كما يكتب البروفيسور الألماني، عندما تُجمع معلومات خاطئة. بتاريخ 333 قبل الميلاد، وبسبب "تضارب الأحداث" وتشابكها مع بعض، وصلت المعلومات التجسسية لقائد الجيش المقدوني بشكل خاطئ، لقد أخبره عملاؤه، بأن الملك الفارسي وجيشه كانوا ما يزالون بعيداً، لا يشكلون خطراً عليه. بينما الحقيقة كانت أخرى، وهي أن الجيشين الفارسي والمقدوني سارا بتقاطع مع بعضهما، إلى درجة أن الاكسندر الكبير كان عليه أن يعيد تشكيل جيشه من جديد "في تشكيلة حربية معاكسة". رغم أنه في النهاية سينتصر.
الآن وما يخص مستقبل الحرب التجسسية في الانترنيت والتي انتجت الويستلبلوير الأميركي الهارب واللاجئ في موسكو، أدوارد سنودن،لم يعد أحد بمنأى من التعرض للتجسس. الانترنيت حسب قول سنودن تحول أكثر فأكثر إلى ساحة معركة بين الدول. بهذا الشكل تحول عمل الأجهزة السرية من جلب المعلومات إلى عمل هو سلاح حربي مباشر، كما حصل للهجمة الانترنيتية على برنامج الطاقة النووية الإيراني وتخصيب الأورانيوم مثلاً، أو كما حصل قبل أيام، عندما تعرضت شركة سوني في هوليوود لقرصنة لفلمها الكوميدي "المقابلة"، الذي يتحدث عن عملية اغتيال مفترضة للديكتاتور الكوري الشمالي.الطريف هو أن الأميركان وعلى لسان رئيسهم باراك أوباما تحدثوا عن سلوك لا أخلاقي قامت به كوريا الشمالية، على افتراض منهم أن كوريا الشمالية الديكتاتورية هذه، هي التي كانت وراء سرقة الفلم مع أفلام ومعلومات أخرى من شركة سوني العملاقة، ونسوا أنهم هم، الأميركان من قاموا (وما يزالون بالتأكيد) بأكبر عملية تجسس ليس على الدول في العالم ورؤسائها، ولم ينج من تجسسهم حتى الحلفاء منهم كما في حالة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، بل أنهم تجسسوا حتى على كل المواطنين العاديين في العالم. الحقيقة، بعد نهاية الحرب الباردة ظننا، أن بمستطاعنا الأمل بنهاية الأجهزة الأمنية. لكن الحلم انتهى، كما يوضح كريغير: الإنترنيت حطم هذا الحلم ... وقضى عليه!
تجسسٌ دائمٌ وفي كل مكان
[post-views]
نشر في: 17 فبراير, 2015: 02:31 ص