مرتضى محيي الدينتحتفل الأوساط الأدبية المصرية والعربية، هذه الايام، بمرور خمسة وسبعين عاماً على رحيل أحمد شوقي «أمير الشعراء» كما لقّب، وكان رحل عام 1932. والواقع أن تقييم شوقي في حياتنا الثقافية تم عبر منظورين مختلفين: أحدهما: منظور سالب، وثانيهما: منظور موجب. المنظور السالب يرى أن شوقي كان ربيب القصر، وأنه «ولد وفي فمه ملعقة من ذهب»
وأنه شاعر الجموع، لا شاعر الفرد، شاعر الخارج لا شاعر الداخل، شاعر الموضوع لا شاعر الذات، ولذلك هو شاعر تقليدي يعيد ترجيع أصداء الشعر العربي القديم، ولم يصنع سوى محاكاة القصيدة العربية في عصورها الزاهرة الغابرة، كما أن الجميع لم ينس له موقفه السلبي من ثورة عرابي (1881) وهو الموقف الذي جعله يستقبل عرابي عند عودته من المنفي بقصيدته سيئة السمعة التي يقول مطلعها: «صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي؟». أما المنظور الموجب (الذي أميل إلى النظر من خلاله من دون تجاهل المنظور السالب) فيمكن تلخيصه في النقاط الموجزة التالية: 1- كان الشعر العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في حاجة ضاغطة الى نوع من الإيحاء أو البعث، ينتشله من هبوط مرحلة الانحطاط التي غرق فيها طوال القرون السابقة، وقد نهض شعراء هذا البعث والإحياء بمهمتهم خير قيام، بدءاً من محمود سامي البارودي، ومروراً بأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي وإسماعيل صبري ومعروف الرصافي وحافظ إبراهيم وخليل مردم وخليل مطران وغيرهم. أعاد هذا الرهط من شعراء الإحياء والبعث إلى القصيدة العربية ديباجتها المتينة ومتانتها الكلاسيكية التي كانت فقدتها طوال فترات الركاكة والضعف (وإن كانت مسألة ركاكة الأدب في عصور الانحطاط تحتاج إلى إعادة نظر جذرية). وعندي أن ذلك الإحياء كان مرحلة ضرورية باعتباره «قنطرة» تاريخية يعبر علىها الشعر إلى التجديد والتطور والتقدم، وهو ما حدث بالفعل في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات، حينما اندلعت في الحياة الشعرية العربية ثلاث مدارس رومانتيكية كبرى انتقلت بالشعر نقلات جلية معروفة، وهي: مدرسة «الديوان» ومدرسة «المهجر» ومدرسة «ابو للو» (التي رأسها شوقي نفسه في السنة الأولى من قيامها رئاسة شرفية) وواضح أن هذه الأرضية التقليدية التي جهزها هؤلاء الاحيائيون كانت لازمة من أجل أن تنشأ علىها (بها وضدها) التحولات التجديدية اللاحقة. قد يقول قائل إن الشعر العربي لم يكن محتاجاً لهذه «القنطرة» وكان علىه أن يقفز من مرحلة الانحطاط (العثمانية المملوكية) الى مرحلة التجديد الرومانتيكية مباشرة، على طريقة «حرق المراحل» وربما كان ذلك صحيحاً من الناحية النظرية، لكنه لم يحدث لسببين: الأول هو أن ثقل وطأة الشعر العربي القديم وترسخه في بنية (وذهنية) الثقافة العربية لا يتيح نجاح نظرية «حرق المراحل» أو القفزات الجذرية الواسعة، وإنما يتيح - فحسب - التدرج المتمهل في التطور وفي تسلسل الخطوات، والثاني هو أن بعض «الانحرافات» عن المتن التقليدي الراسخ كانت واقعة بالفعل، لكنها لم تكن ظاهرة في بؤرة المشهد الشعري الرئيس واقصد محاولات التمرد الشعري التي مارسها خليل شيبوب ومحمد فريد أبو حديد وجبران ونعيمة وباكثير ودومط وغيرهم، على أن هذه الانحرافات ظلت «هامشاً» للمتن الرئيس للقصيدة العربية التقليدية التي تطورت إلى القصيدة الرومانتيكية العمودية (مع تعديلات طفيفة أجرتها المدارس الثلاث المذكورة). 2- صحيح أن شوقي اتخذ موقفاً سلبياً من ثورة عرابي، لكن ذلك مردود علىه ثلاثة ردود: *الأول: أن الموقف من ثورة عرابي لم يكن المعيار الوحيد للوطنية أو عدمها، فقد اختلف في تقييم ثورة عرابي وطنيون عديدون، منطلقين من ان هذه الثورة لم تحسب بدقة النتائج الفادحة، وهي النتائج التي جرت على مصر الاحتلال الإنكليزي (1882) وتكرر هذا اللبس مع تأميم عبدالناصر لقناة السويس، التأميم الذي نتج عنه العدوان الثلاثي على مصر، ومع اسر حزب الله جنوداً إسرائيليين ما نتج عنه عدوان اسرائيلي وتدمير لبنان. *الثاني: إن سيرة شوقي (على رغم موقفه من عرابي) لم تخلُ من بعض المواقف الوطنية مثل قصيدته عن دنشواي (1906) ومثل تعاطفه مع الخديوي عباس حلمي الثاني الذي شكل آنذاك بريق أمل لقطاعات من الحركة الوطنية المصرية، بسبب تأييده تركياً ضد الانكليز في الحرب العالمية الثانية (1914 - 1918) وكان من نتيجة هذا التعاطف أن أبعد شوقي إلى اسبانيا منفياً، حيث قال قصيدته الشهيرة التي يعارض فيها سينية البحتري هاتفاً: «اختلاف النهار والليل ينسى اذكرا لي الصبا وأيام أنسى» وهي التي تحتوي على البيت الذي صار شعاراً من شعارات محبة الوطن: «وطني لو شغلت في الخلد عنه نازعتني الىه في الخلد نفسي». الثالث: أن احياء الشعور «القومي» كان واحداً من إنجازات شوقي السياسية في شعره، إذ تعامل مع الوطن العربي كوحدة سياسية واحدة، في مرحلة حرجة كان فيها العالم العربي يخضع لاحتلالات ثلاثية كبيرة: الإنكليزي والفرنسي والإيط
77عاماً على رحيل «أمير الشعراء» ... أحمد شوقي تقليدي أم مجدد؟
نشر في: 18 ديسمبر, 2009: 05:37 م