شغلت المطربة عفيفة اسكندر الأوساط الفنية والثقافية في بغداد.. فهذه المرأة المسيحية الجميلة دخلت الإذاعة العراقية عام 1937 ليصبح اسمها بين ليلة وضحاها على كل لسان.. كان السحر عند الناس آنذاك هو الراديو.. فقد استحوذ الأثير المغني على البيوت.
جاءت هذه البنت من أربيل إلى بغداد، صبيّة تحلم بعالم من الشهرة والأضواء، كان عالم بغداد جميلا ومختلطا وملونا، ففي هذه المدينة تحمل الشوارع المضاءة أسماء ملوك وشعراء وأمراء، أشهرها الرشيد.. في هذا الشارع انشأ تاجر مسيحي أشهر المحال "حسو اخوان" وافتتح مسيحي آخر أشهر أستوديو للصور "أرشاك".. وفي هذا الشارع أيضا ينشئ مسيحي آخر أشهر فندق "دجلة بلاس".. في هذه المدينة التي تتطلع إلى المستقبل بعيون مفتوحة علقت الشواهد على شوارعها الرئيسية "الملك، ابو نواس، الأمير غازي، ابن سينا، تلك كانت بغداد الثلاثينيات والقادمون يأتون من قريب ومن بعيد يغنون، ويعشقون، ويحلمون بيوم يصبحون فيه قادرين على العيش برفاهية، وعلى الحصول على جهاز "باي" يغني لهم داخل البيت بدلا من اسطوانات جقماقجي وبيضافون.
في البيت الذي سكنته عفيفة اسكندر في كرادة مريم كان المذياع يصدح بأغنيات سليمة باشا ومنيرة الهوزوز وزهور حسين والقبانجي.. وكانت الفتاة الجميلة تمضي أكثر الوقت من اجل أن تسمع ما تحب.
الإذاعة نفسها "إذاعة بغداد" كانت على بعد خطوات من البيت الذي سكنته عفيفة وسوف تغامر ذات يوم، بالذهاب صوب الإذاعة، وتطلب من فؤاد جميل مدير الإذاعة آنذاك، أن تغني ولكن من سيلحن لها الأغنية؟ لم يكن غير اليهودي صالح الكويتي الذي كانت أصوات المطربات تنتظر عند عتبة بيته، غنت عفيفة فأطربت وقبضت أعلى اجر تأخذه مطربة انذاك وهو دينار ونصف الدينار دفع لها من أموال الجباية التي تأخذها الإذاعة نظير تقديم برامجها لمن عنده جهاز راديو، فحين أنشئت الإذاعة عام 1936 اعترضت وزارة المالية على المبالغ المخصصة لعدم وجود بند في الموازنة لمثل هكذا مشاريع، فتفتق ذهن البعض عن فرض رسوم بمبلغ ربع دينار سمي برسم الراديو يؤخذ من أصحاب المقاهي والمحال والبيوت التي تضع هذا الجهاز، وهكذا نشأ جيش من الجباة بزي موحد يجوبون الطرقات ويطرقون الابواب ويتنصتون على الناس من خلف الشبابيك قائلين: "عدكم راديون" ويكون الجواب دائما "لا يابه عدنا قبول".
نحن هنا في دار الإذاعة اللاسلكية العراقية التي أنشأها ملك يعشق الفنون "غازي"، حيث يجلس صالح الكويتي فنان متقشف، منضبط، حزين الملامح، وفي بغداد التي يأتي اليها الحالمون واصحاب المواهب، حيث يصنعون لها مجدا يطرزونه مثل عقد من الخرز الملون، يصغي صالح الكويتي الى الفتاة الجميلة الملامح، الفارعة الطول ويقول لها بصوت هامس دون شيء من ابتسامة تشجيع او فرح "عفيفة اسم سيعني الشيء الكثير، وسوف تكونين النغم الجديد لهذه الإذاعة".
وبأمر من المترجم والأديب الأنيق فؤاد جميل، بدأت عفيفة الرحلة نحو الأسطورة، ولم يكن لها أن تدرك أنها سوف تصبح ذات يوم نجمة بغداد المشعة، وسوف تصبح نوعا لا يقلد من الغناء، لا قبل ولا بعد، فمعها ومع الأغنيات القصيرة البسيطة التي تشدو بها سوف يتغير جوهر الأغنية العراقية، وسوف يأتي إليها الملحنون والشعراء الذين كانت تحلم أن تلتقيهم يوما ليسألوها: عفيفة هل تغنين لنا ولتصبح امرأة أخرى من قوم عيسى تأسر القلوب والأسماع، فقبلها أسرت شقيقة لها قلوب كل العراقيين وهم يسمعون ناظم الغزالي يشدو:
سمراء من قوم عيسى من أباح لها....قتل امرئ مسلم قاسى بها ولها
رأيتها تضرب الناقوس قلت لها..من علم الخود ضربا بالنواقيس
نقلت عفيفة فرحها وعفويتها ومرحها إلى كل أغنياتها التي زينت بها حياة العراقيين، رسمت لنا وطنا دائما ما ينتهي إلى البهجة والحياة.
ماتت عفيفة اسكندر وفي عيونها عتاب، فبغداد استبدلت ثوب الحياة برداء مقزز لساسة كارهين لكل ما حولهم، لا يرون جمالا ولا خيرا ولا سعادة الا في سرقة أحلام الناس وسعادتهم، أغمضت عفيفة عينيها وهي تودع حبيبتها وقد استولى عليها سياسيون يفرضون كثيرا من الكآبة على الحياة معززين ثقافة الظلام، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل، يأمرون الناس بالكف عن ممارسة الفرح الذي لم يعد مهنة العراقيين بعد أن سادت مهن جديدة مثل العصابات والميليشيات وفرق الموت والعلاسة والحواسم وأمراء الحرب الطائفية والسياسيين المأجورين وكل هؤلاء يتبارون في كيفية ذبح السعادة والفرح ووأدهما في مقبرة الظلام.