عندما التقيته للمرة الأولى كان شابا وسيما متمردا ، ساخطا ومتذمرا ، مزاجيا وقلقا ، بل و ربما عدميا ، يحمل في حقيبته طينا جاء به من مدينة النهروان ، حيث يعمل هناك في الإشراف على محطة لبيع الوقود تعود لعائلته . كان عدي رشيد ، عندها ، وبعيدا عن هيئته الخ
عندما التقيته للمرة الأولى كان شابا وسيما متمردا ، ساخطا ومتذمرا ، مزاجيا وقلقا ، بل و ربما عدميا ، يحمل في حقيبته طينا جاء به من مدينة النهروان ، حيث يعمل هناك في الإشراف على محطة لبيع الوقود تعود لعائلته . كان عدي رشيد ، عندها ، وبعيدا عن هيئته الخارجية يؤسس بهدوء وتصالح مع النفس و بصمت لسينما جديدة في العراق . تركنا الطين يجف في ظهيرة حارة تحت شمس بغداد . وذهبنا الى مقهى الجماهير ، هناك اصبح عدي مشروعا ناضجا للحلم .
اليوم ، حيث تتناسل افلام الشباب وتتوزع مشاركاتها في اهم المهرجانات العالمية ، يراقب عدي رشيد هذه النجاحات من مشغله السينمائي في نيويورك ، لقد ترك الطين يتيبس وينشق عن نبتة خضراء غضة اسمها السينما العراقية الجديدة .
هذا الشاب ذو الخيال التأسيسي ، صاحب اولى الخطوات الجادة في صناعة سينما جديدة ، تجد طريقها على أسفلت بلد ليس فيه قاعة سينما حديثة واحدة ، ليس فيه شيء مما يعرف بصناعة السينما ، ليس هناك قطاع خاص يغامر في الفن السابع ، ولا قطاع حكومي جاد ايضا.
السينما العراقية الجديدة ظاهرة غريبة و متفردة ، ولادة في الزمن الخطأ والمكان الخطأ ، لكنها الصح بمجمله .
كل مهرجانات العالم تحتفي بها وتستقبلها ، تمنحها الاعتراف وأحيانا الجوائز ، لكنها تبقى لغزا عصيا على الفهم .
- كيف يمكن ان تحدث سينما في المكان الذي فشلت فيه صناعة دولة ؟
لقد أنجز عدي رشيد مشروعا غرائبيا وغريبا ، لقد ترك بذرة قوية ، مقاومة للظروف البيئية القاسية ولا تحتاج كي تنمو كما يبدو ، الا الى الأحلام الحقيقية ، وكذلك شيء من الجنون والمغامرة والانطلاق الى المستقبل .
من بين نجاحاتنا الشحيحة ، نحن ننجح في السينما .
نحن نؤسس (مجتمعا ) سينمائيا وثقافة سينمائية ووعدا سينمائيا . وكلما اعود الى جذور الحلم الاولى ، الى ( هرطقات ) عدي رشيد وحديثه عن السينما ونوعية الكتب التي يقرأ ويتداول ، أُصاب بنوبة من التشوش الذهني . كيف تحول الحلم المجنون الى اخبار وجوائز ووقائع وحضور واشياء موجودة بقوة .
لم يعد رشيد ،ذلك الشاب العدمي بعينيه الذكيتين ، مجرد حالم مدفوع بقوة الشباب . لقد اصبح أباً لجيل من السينمائيين يصنعون من الهواء مراوح من طين . انهم يصنعون السينما .
انصرف لمشروعه الشخصي ، هو الآن يؤسس لعدي الفنان في عاصمة العالم نيويورك ، بينما تستمر اخبار السينمائيين الشباب تصطدم ببلادة تجاهلنا لأخطر ظاهرة ثقافية ، تتحقق بقوة وترفع عنوانا جديدا اسمه السينما العراقية ، التي كانت حتى زمن قريب كناية عن زمن مضى لتستحيل الى واقع يتحرك بثقة .
السينما العراقية الجديدة تراكم نفسها وتقترح سجلها الجديد ، و كم نحن بحاجة الى ان نوثق خطواتها الاولى ، لكي لا ننسى ذلك الجيل الجميل من الشباب ، الذين جمعتهم قاعة حوار في منتصف التسعينات ، وقدموا لنا درسا مهما في تأسيس الأحلام . جيل بلا شك قدم اسماء مهمة لعل عدي في مقدمتها ، ولعل حسن بلاسم وهو يقترح سردا عالميا عن قصتنا بعيدا عن الكاميرا قريبا من الشاشة ، وزياد تركي وهو يتقدم بالصورة الى تخوم لم نألفها ، هو تشكيلي السينما الصريح ، ولولاه لا أستطيع ان اجزم ان شيئا من ذلك كان سيحدث ، فهو روح المغامرة وصانع واقعيتها .. جيل فيه باسم الحجار وسمر قحطان ونزار حسين ومراد عطشان والمجنون حيدر حلو واخرون ، جيل صنع لنا قصة مشوقة اسمها السينما العراقية الجديدة.