اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > بحيرة الوجع .. أمل بسينما عراقية حقيقية

بحيرة الوجع .. أمل بسينما عراقية حقيقية

نشر في: 18 فبراير, 2015: 06:21 ص

خيرا فعلت دائرة السينما والمسرح بإقدامها على عرض الأفلام السينمائية لوزارة الثقافة التي أنتجت بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 ودعوة المختصين في النقد السينمائي لتقديم مطالعاتهم النقدية بعد عرض كل فيلم مشاركين معهم الجمهور بتقديم وجهات نظرهم

خيرا فعلت دائرة السينما والمسرح بإقدامها على عرض الأفلام السينمائية لوزارة الثقافة التي أنتجت بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 ودعوة المختصين في النقد السينمائي لتقديم مطالعاتهم النقدية بعد عرض كل فيلم مشاركين معهم الجمهور بتقديم وجهات نظرهم بتلك الأفلام . واختلفت وجهات النظر باختلاف مستويات تلك الأفلام، التي امتاز بعضها  بمستوى منخفض في الصورة والصوت والحوار، بينما امتاز القليل منها والذي عرض لحد الآن بمستويات مفرحة تدلل على وجود فنانين مبدعين في المجال السينمائي. 
 
بحيرة البجع .. بحيرة الإبداع
كانت مفاجأة الأسبوع الماضي فيلما لم تسلط عليه الأضواء كثيرا رغم نجومية العاملين فيه. ظل المخرج يعمل فيه بصمت وبمواقع تصوير مختلفة، لم تصل إليها وسائل الإعلام ، ألا وهو فيلم " بحيرة الوجع ". وقام بتجسيد الشخصيات الرئيسية الفنانة سناء عبد الرحمن يقاسمها البطولة جلال كامل ممثلا ومخرجا، وهمسة ماجد ومازن محمد مصطفى .بالإضافة إلى عدد آخر من الفنانين الذين أجادوا لعب أدوارهم الثانوية ليقدموا لنا في المطاف الأخير فيلما ناجحا كان الأداء فيه جميلا ومعبرا ومتميزا. فبينما لعب جلال كامل دور معلم الموسيقى "ابراهيم" بعفويته المعهودة، أجادت سناء كامل تجسيد دور"المجنونة" بشكل خلاق ومبدع، حتى انك تحتار بين اعتبارها معوقة أم مجنونة، مشيتها وحركة جسدها ونظرات عينيها وطريقة تعاملها مع الآخر المختلف أو حتى مع طريقة ارتدائها للملابس. كل هذا قدم لنا شخصية جديدة لا في السينما فحسب بل في التمثيل عموما، وأعتقد وربما أجزم، بأن شخصية " ملاك " التي جسدتها سناء عبد الرحمن ستبقى راسخة في ذاكرة المشاهدين حالها حال الفنانة الكبيرة ناهدة الرماح ودورها الشهير في مسرحية " النخلة والجيران" لمخرجها الفنان قاسم محمد والتي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث في نهاية ستينات القرن الماضي. ان سناء عبد الرحمن تستحق بامتياز لقب "أحسن ممثلة" في كل الأفلام التي عرضت. أما الفنانة همسة ماجد فلم تكن سوى نسمة تمر على شغاف قلب المشاهد كلما ظهرت على الشاشة ..لقد أجادت دور الطبيبة والعاشقة في آن واحد .كان لمحياها الجميل ووجهها القمري وعفويتها العالية دور مهم في نجاحها رغم حداثة تجربتها مع التمثيل. ولكن يبدو أن للمخرج دور كبير هنا في الاشتغال مع الممثل، وهذا معروف في الوسط الفني عن جلال في تعامله مع ممثليه . أما الفنان القدير مازن محمد مصطفى فقد جسد دور الابن العاق والشرير بامتياز .. ولم يكن مفاجئا بإجادته للدور فهو نجم في المسرح وفي التلفزيون ويستحق كل الاحترام والتقدير. الشاب المبدع سعد محسن هو الآخر كان كعادته متألقا عفويا بعيدا عن التكرار أو المبالغة المملة في الأداء. توقفت عند التمثيل طويلا لكون هذا الفيلم استطاع أن يقنعنا بأداء الشخصيات الرئيسية والثانوية على حد سواء ولا نستطيع أن ننسى أداء بقية الممثلين الثانويين أمثال بشرى اسماعيل وحميد الجمالي واسعد مشاي وخالد أحمد مصطفى ووليد العبوسي وماجد أبو زهرة ، وبالأخص مجموعة الأطفال التي يقودها الحسن جلال كامل، كانوا مقنعين بادائهم. وتحية تقدير للمخرج الذي استطاع أن يجعل من هذه المجموعة شخصية لها بصمتها الواضحة في الفيلم دلالة وأداء وحضورا..
الموسيقى دواء ناجع للروح
وتحية أخرى لجلال كامل الذي أقنع قائد الفرقة السمفونية العراقية المايسترو محمد أمين عزت أن يتحول الى ممثل ناجح وقائد للفرقة في آن، إذ أن الموسيقى في الفيلم كانت لها شخصيتها المتميزة وكأني بها تمثل مع البقية فنحن نسمعها وتسمعنا ونشعر بها تتكلم وترقص وتفعل كل ما يفعله الممثل/ الإنسان، وأعتقد ان هذا هو الهدف مما كان يريد أن يوصله المخرج للمتلقي عن أهمية الموسيقى في حياته وحياة أبنائه ، فدفع أحد رجال الدين ابنه لتعلم الموسيقى هو للوقوف بوجه من يرى في الإبداع بدعة وضلالة . ونحن نعلم، في الحياة اليوم، وليس في السينما، أن هناك رجال دين ومن طوائف مختلفة يسمعون ويعزفون الموسيقى! وهنا لا بد من الإشارة للذوق العالي والدقيق في اختيار الموسيقى وللألحان الجميلة التي وضعها الفنان رائد جورج.
جلال كامل بين بحيرتي الوجع والبجع!
عنوان الفيلم "بحيرة الوجع" هو تحوير ونحت جديد لعنوان موسيقي قديم يعرفه المختص وغيره، وهي المعزوفة العالمية الشهيرة "بحيرة البجع" من روائع الموسيقي الرومانتيكي الروسي تشايكوفسكي الموسيقية التي ألفها عام 1887. ويبدو لي أن اختيار العنوان جاء لتأكيد أهمية الموسيقى في "جوانيات" المخرج المعذب بها ولها، وللكم الهائل من الآلام التي يعاني منها المواطن في عراق اليوم والتي يعتقد المخرج بان الموسيقى يمكن ان تساهم بعلاج الكثير من أمراض هذا المواطن النفسية .
معالجات ومواقف مختلفة
قصة الفيلم وتشعباتها سبق وأن طرحت في فيلمين شاهدناهما في الأيام الأولى لفعالية أيام السينما العراقية، وبمعالجات مختلفة. الأول "قاع المدينة" للمخرج جمال عبد جاسم حيث نرى معلم درس الفنية " الفنان ستار البصري" وهو يزجر من قبل مدير المدرسة الذي يرفض ان يستمر المعلم بتعليم المواد الفنية كالموسيقى والرسم . أما الثاني فهو فيلم " صمت الراعي " لمخرجه رعد مشتت حيث يطرح موضوعة متشابهة لما يطرحه جلال كامل ولكن بمعالجة وموقف مختلفين وهي القضية من المرأة بشكل عام والفتاة التي تتهم بعلاقة غرامية أو تهرب مع رجل لتتزوج منه ، والقصاص الذي تفرضه العشيرة بما يسمى " غسل العار" سيئ الصيت . في "صمت الراعي" نجد مشتت يفبرك قضية اختفاء " فتاة القرية " والتي تتهم بالهرب مع احد الشباب ليتزوج منها ويكتشف بعد عقد ونصف انها دفنت في مقبرة جماعية! ليقف موقفا حازما مع والد الفتاة ورجال عشيرته الذين يطالبون بالقصاص منها حسب العادات العشائرية البالية والتي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي ولكن مع التخلف الذي بدأ يستحوذ على مقدرات ومفردات حياتنا فإن رعد مشتت يساهم مساهمة فعالة بتبني تلك العادات البالية منذ اللقطة الأولى في الفيلم ،حيث يظهر أبو الفتاة المختفية محاط برهط من صحبه وأبناء عشيرته يتقاسمون الابتسامات والشعر و"الهوسات" وهم يحتفلون ببراءة ابنته وعذريتها ويلبسون الأب عقال العفة، ويتبادلون الابتسامات متناسين جريمة المقابر الجماعية التي أسس لها النظام السابق، فعذرية الفتاة وشرف العشيرة أهم من جريمة يرتكبها نظام جائر! إذ أن هذا المشهد هو الاستهلال الذي يبدأ به الفيلم وهو ايضا المشهد الاخير الذي يطوي فيه المخرج الصفحة الاخيرة من قصته المربكة والمرتبكة . 
في البدء كان الرافدان
أما المخرج جلال كامل في بحيرة وجعه فيقف موقفا حاسما وحازما من هذا التقليد العشائري البائد، وهو قتل الفتاة التي تقيم علاقة مع رجل ما. فكيف عالج جلال هذه القضية؟
قصة الفيلم تبدأ بلقطات عامة جميلة من الجو حيث تكشف بغداد عن جمالها من دون أن نرى "الصبات" والسيطرات والأسلاك المتدلية هنا وهناك أو الأبنية المتهدمة والمتآكلة ..إنها لقطات جديدة حقيقية لبغداد محاولا الكشف عن الزوايا الجميلة فيها من معمار متواضع ليطل من الجو على صرح جميل وسط بغداد وهو بناية المسرح الوطني.. إنها بغداد كما يتمنى أن يراها المخرج الذي يتابع بطله معلم الموسيقى إبراهيم ( جسد الشخصية المخرج نفسه) وهو داخل السيارة ونتابع لقطات متبادلة بينه وبين فرقة سمفونية حتى يصل البطل إلى المسرح الوطني الذي يتعرض لهجوم إرهابي واعتداء سافر على الفرقة السمفونية، إلا أنها تلملم جراحها وأدواتها الموسيقية ويطلب المايسترو من الموسيقيين الاستمرار بالعزف كيدا بالإرهابيين الذين يريدون إيقاف عجلة الحياة. في فيلم " قاع المدينة" لجمال عبد جاسم ينصاع معلم الفنية للمدير ويثلم جانبا ممتعا من حياتنا ، بينما في بحيرة الوجع يتقاسم البطل مشاعر المايسترو بل ويحلم أن يقف هو مكانه لقيادة الفرقة ويستمر في تعليم أطفال القرية الموسيقى وإنشاد كلام جميل صاغه شعرا المبدع كاظم الحجاج ولحنه جلال كامل : 
في البدء كان الرافدان
وكانت الدنيا دخان 
لا بارق خلف المدى 
والأفق ضاق
حتى بدا مثل الندى
وجه العراق
يا سلام، أي كلام جميل يتماهى مع ألحان " جلال كامل" وأصوات أطفال تنشز وتحشرج تعمد المخرج ان لا يختارها بعناية فهم أطفال القرية وليسوا فرقة فنية. فالمعلم ابراهيم مهووس بالموسيقى والحياة، والأطفال مهووسون به وبألحانه، يهرعون لنجدته كلما تطلب الأمر ذلك! وهذه تحسب للمخرج لا عليه، فهو لا يريد ان يعلم أبناء القرية الموسيقى والغناء، والذين لم يتم اختيارهم كفرقة غنائية بل هكذا لمن يحب، انه أراد ان يزرع بذرة المحبة والتآخي والسلام في نفوسهم من خلال حب الفن بشكل عام والموسيقى بشكل خاص. وينسج المخرج قصته وتشعباتها لتصب في هدف أسمى ، الحب والمحبة للكون والإنسان . والجميل في بحيرة الوجع انه لا توجد إشارة لأية طائفة دينية، رغم أن الدين والدينيين يملأون الفيلم حكاية وحديثا. كما أن الإرهابيين أو المتشددين في الفيلم كذلك لا يحملون إشارات لطوائفهم ، وهذه أيضا تحسب لذكاء المخرج بالابتعاد عن " مفخخات " هو في غنى عنها. ابنة الشيخ تحب "أبو المكينة" في القرية، ويبدو أن قصة حبهما قد انتشرت في القرية فيصارح العاشق شقيق الفتاة واسمه حميد من اجل خطبتها الا ان حميد يهيج مثل ثورمعلنا إقدامه على "غسل عار" العائلة بقتل أخته وعشيقها. وفعلا يتم اغتيالهما ،غير بعيد عن دار إبراهيم، معلم الموسيقى، وتصور الجاني أنهما فارقا الحياة إلا أن إبراهيم يستطيع أن يسحبهما إلى داره التي يعيش فيها مع أخته " ملاك " التي سبق وأن مسها شيء من جنون بسبب اغتيال زوجها في ليلة الزفاف، كما يكشف لنا ذلك المخرج ببراعة في نهايات الفيلم . وهكذا نسجل محاولتين لاغتيال الحب. وبعد أن تم سحب العشيقين الجريحين إلى الدار يقوم ابراهيم باستدعاء طبيبة لمعالجتهما وهي ابنة عمه ، شقيقة حميد ، ويبدو أن بين الطبيبة وابراهيم علاقة حب خفية تظهر رويدا رويدا، وتقوم بمعالجة المصابين، ورغم تماثلمها للشفاء إلا أنهما يقعان في الأخير ضحية رصاصات غادرة لعصابة يقودها حميد ( مثّل الدور وأجاد فيه الفنان مازن محمد مصطفى) الذي يتجاسر مع أبيه ويحاول أن يثأر من أخته الطبيبة بسبب علاقتها بابن عمه إبراهيم . نكتشف بعد حين أن حميد له علاقة مع تنظيم إرهابي يقوم بالخطف والاعتداء على ممتلكات وأعراض الناس وهو ما حصل في العراق وبالأخص عامي 2006 و2007 . ويقرر هذا التنظيم اختطاف "ملاك" المجنونة من اجل تصفيتها لأن هناك رائحة اعتداءات جنسية وقعت عليها قام بها بشكل رئيسي ومتكرر صاحب محال ملابس في القرية ( جسد الشخصية الفنان سعد محسن). وحين يرى حميد صورة ابنة عمه في يد أصحابه الإرهابيين تثور ثائرته ويحاول أن يقتلها بنفسه . يحاول وجهاء القرية والخيرون فيها أن يقنعوه بأن " لا حرج على مجنون " والأولى بالقتل هو الزاني، ذلك المجرم الذي استدرجها لاقتراف فعله الخسيس. ولكن هل تنفع الحجة مع متعصب ؟ .. ونكتشف بعدئذ السبب الحقيقي لإصرار حميد على النيل من إبراهيم وشقيقته ملاك . إبراهيم يحب الطبيبة ولا بد أن ينتقم شقيقها منه . وحميد سبق وأن رفضته ابنة عمه ملاك حين كانت في كامل قواها العقلية ولذلك قام هو بنفسه باغتيال عريسها ليلة الزفاف . وقد واجهوه بهذه الحقيقة في الاجتماع العشائري في القرية، إذ اعترف أحد رجالها بأنها شاهد حميد وهو يطلق النار على العريس. 
 
الجيل الجديد يقضي على الإرهاب!
المشهد الأخير في القصة تم حبكه بإتقان وبوعي متقدم من المخرج لإيصال رسالته للمتلقي . الأطفال يشكلون سدا بشريا منيعا كي لا يقترف الإرهابي جريمته، وهي رسالة مؤداها بأن من يستطيع إيقاف الإرهاب هم الجيل الجديد. وهذا واضح أيضا حين يهم حميد بمحاولة قتل ملاك في نهاية الفيلم شاهرا سكينا، فيدفعه الأطفال ويسقط على وجهه لكي تمزق السكين أحشاءه. هنا أيضا يريد المخرج أن يوصل لنا رسالة تؤكد ما رأيناه سابقا بأن القضاء على الإرهاب سيتم على أيدي الأجيال الجديدة التي يجب ان تتسلح بالعلم والمعرفة والفنون. لقد عالج جلال كامل الموقف من المرأة بشكل عام ومن قضية "غسل العار" من وجهة نظر تقدمية تقف مع المرأة ومع الحياة، وتدافع عن حقها في حياة طبيعية مليئة بالعلم والعمل والمحبة. في الفن كما في الحياة لا يوجد عمل متكامل ، والسلبيات التي ظهرت في الفيلم هنا وهناك قد غطت عليها الإيجابيات الكبرى في الحبكة والرؤية والتمثيل .. صحيح أن الجمهور لم يصفق لهذا المشهد أو ذاك إلا أنه بقي منشدّا لكرسيه متابعا باهتمام وصمت خيم على القاعة طيلة عرض الفيلم وهذا تصويت وتصويب آخر لصالح الفيلم و الكادر الفني الذي أنجزه .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

سعادة عابرة" لسينا محمد: شاعرية سينمائية مرهفة

(وادي المنفى).. فيلم واقعي عن اللاجئين السوريين في لبنان

في ختام مهرجان "كارلوفي فاري" فيلم "غريب" للمخرج "زينغفان يانغ" ينال الجائزة الكبرى

مؤسسة البحر الأحمر تكشف عن الفرق المُختارة من تحدّي صناعة الأفلام

مقالات ذات صلة

سعادة عابرة
سينما

سعادة عابرة" لسينا محمد: شاعرية سينمائية مرهفة

قيس قاسميرسم المخرج الكردي سينا محمد على سطح لوحته السينمائية، التي يُسمّيها "سعادة عابرة" (2023)، نافذة صغيرة، يطلّ منها على موطنه، بعين رسّام سينمائيّ يتأمّل، من الأفق الذي تُشَرعه، عيش أهله، ثم يذهب بخياله...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram