في مهرجان المربد في البصرة ، أتى البعثيون بالكاتب المصري محمد النويهي ليتحدث بشكل غير لائق عن الشعر القديم ويعتبر الشاعر القديم مثل (حادي العيس) ويمدح الشعر الحديث أو الشعر الحرّ.
كان الجواهري يعتبرذلك طعناً به وعملية مقصودة من البعثيين ضده. وبدأت ب
في مهرجان المربد في البصرة ، أتى البعثيون بالكاتب المصري محمد النويهي ليتحدث بشكل غير لائق عن الشعر القديم ويعتبر الشاعر القديم مثل (حادي العيس) ويمدح الشعر الحديث أو الشعر الحرّ.
كان الجواهري يعتبرذلك طعناً به وعملية مقصودة من البعثيين ضده. وبدأت بعد ذلك معركة كلامية بينه وبين عبد الوهاب البياتي على صفحات الصحف، ولكل أنصاره ومن يكتبون.
كنت مسؤولاً عن صفحة الثقافة بجريدة (التآخي) وكان معظم ما ينشرفيها هو دعم للجواهري. وذات يوم جمعة ذهبت الى دار الجواهري وكنت أتناول الغداء عندهم في تلك الحالات.
رأيته منقبضاً وغير مجامل لي على خلاف العادة. سألته: هل رأيت هذا المقال؟ فنظر اليه بعدم إكتراث، وقال: ثم ماذا؟ قلت: ألا ترى هذا التعظيم للجواهري وهذا التقليل من شأن البياتي تجاهه، قال: ثم ماذا؟ ومن تكون هذه الكاتبة؟ قلت: إنها (هند نوري أحمد العبدان)، قال: وثم ماذا؟ ومن تكون هذه، فقلت: انها (أم علي) قال: ومن تكون (أم علي) هذه وما موقعها في الكتابة والأدب؟ قلت: أظنك تعرفها جيداً، إنها زوجة عبد الوهاب البياتي، أضفت: نعم ... إنها (أم علي) التي تحترمها كثيراً. انفتحت أساريره وقال: ماذا ... ماذا ... أتيت لي بالأنصار من أهل بيته؟ عافية عزيّ ... كنت أقول وين عزيّ بهاي (أي بهذا الصراع غير المتكافئ) .. عافية عليك. ونادى أم نجاح لتعد لنا غداءً شهياً.
* * *
ومرة أخرى كتبت مقالاً أو خاطرة عن مهرجان المربد فقلت: عندما صعد الجواهري العظيم المنصة، تراءت لي صور المشيب عند الشعراء العظام والجواهري في طليعتهم، ولكن صورة الشيخ رضا الطالباني طغت على الصور كلها، واستشهد بذلك معتذراً.
بعد يوم رأيت الأساتذة الكبار الذين يزورون الجواهري دوماً (الدكتور مهدي المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر وحتى الدكتور إبراهيم السامرائي) وكلهم يقولون: خلي يجي ويجيب المقال معه. ذهبت اليه ظهيرة جمعة، وحياني بنوع من البرود أيضاً. قال: أين المقال؟ فوضعته أمامه. قال: ماذا قال شاعركم الشيخ رضا هذا؟ ترجمت له البيت:
عومرم طةيشت بة هةشتا (....)م بةكارة هيَشتا
سأل ما معناه؟ ترجمته بصراحة، وعلت منه ضحكة وقهقهة وقال: عافية عليك وعليه، هو هذا الاساس.
بلغ عمري الثمانين و مازال (....)ي فاعلاً
قال وهو يشير إلى المطبخ: روح قول الها. فأجبت باستحياء: لا يجوز لي ذلك، من الممكن أن تقولها أنت. وجرى حديث عن الشيخ رضا (1830-1910)، وأشعاره باللغات الأربع، وقد ضحك وأعجب كثيراً برباعية قالها عن جميل صدقي الزهاوي:
أقول قولاً ليــــس بالمفترى
أم جمـــــيل أولدته من ورا
إن لم تصدق قولتي الا ترى
صــفرة الوجه من آثار الخرا
وكان الجزاء – مائدة شهية للغداء أيضاً.
* * *
في ذكرى الرصافي ألقى الجواهري رائعته:
لغز الحياة وحــــــــيرة الألبـــــــــاب
أن يستحيل الفكر محض تراب
أن يصبح القلب الذكي مفازة
جرداء حتى من خفوق سراب
كان أبي موجوداً في بغداد وجاء برفقة صديقه وتلميذه الأستاذ علاء الدين سجادي الى الاحتفال، وعند انتهاء الجواهري صعد والدي المنصة وقبله أمام الجمهور، وقال: تمنيت لو كنت شعرة في رأسك لأنال جزءاً يسيراً من عظمة هذا الشعر وهذا الفكر. وفي جلسة في داره سألني عن والدي ونتاجه، وكان هو قد رآه قبل ذلك مرة أو مرتين، فحدثته عن ترجمة والدي لبردة البويصيري، الى الكردية على البحر نفسه والرؤية ذاتها.
فأثنى على تلك القدرة، ثم حدثته عن بعض أشعاره، وخاصة قصيدة (السمكة) وكان طؤران معجباً بها أيضاً.
والقصة أن والدي كان مريضاً في العام (1943) يرقد في مصح بحنس بلبنان، وترفيهاً عن نفسه اشترى سمكة ملّونة أو سمكتين (وضعهما) في إناء شفاف (صراحية) جنب سريره، ولم تكن تلك الأسماك موجودة عندنا آنذاك. فقال قصيدة نشرت في مجلة طلاويذ:
ماسى ية بضكؤلةي سثي وزةرد وسوور
ئةدرةوشــــيَيتةوة بة ضةشني بلـــــــوور
(أيتها السمكة الصغيرة – البيضاء والصفراء والحمراء – إنك تلمعين كالبلور).
ترجمت بعض الابيات منها للجواهري فأعجب بها، وقال: إنها مبتكرة، فهناك مثل هذه المناجاة مع البلبل والعصفور ...الخ. ولكن مناجاة هذه السمكة جديدة لم أسمعها حتى من اللبنانيين.
وذات مرة دونت ملاحظة الجواهري هذه، فكتب عني أحد الجهلة، مادام قد أصبحت له فرصته للقاء الجواهري فلماذا لم يحدثه عن كذا وكذا. وأعذره لأنه لم يكن يحلم حتى برؤية الجواهري ولايعرف عن علاقتي المتينة هذه. دع عنك تحريضه عليّ وعلى أبي، مجداً للجواهري.
* * *
في دمشق، وفي السنوات الأخيرة، أظنها العام 1993 قال لي صديق العمر ورفيقي عبد الرزاق الصافي: سنزور أنا وأنت والرفيق عامر عبد الله، الجواهري هذه الليلة.
ذهبنا اليه وكان عبد الرزاق يحمل معه قنينة ويسكي.
وقامت ابنته خيال بخدمتنا بنشاط وهمة (شاي، قهوة، زهورات). وكان الجواهري يعلق: شوفو شلون تخدم رفاقها (أي الشيوعيين). لم يكن الجواهري شيوعياً، أي حزبياً، وكان يقول دائماً: في اليسار ضعني أينما تريد. وفي عمله الحزبي، كان عضواً في قيادة حزب الاتحاد الوطني برئاسة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم، عند إجازة الأحزاب لمدة في العام 1946 عندما كان الوطني الكبير سعد صالح جريو، وزيراً للداخلية في وزارة توفيق السويدي. وكان الجواهري عضو الهيئة المؤسسة للحزب الجمهوري برئاسة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم، ذلك الحزب الذي لم يمنحه عبد الكريم قاسم إجازة عمل. ولا أظنه مارس عملاً حزبياً، عدا هذا الانتساب.
في تلك الليلة جلسنا طويلاً، وما أن هممنا بالانصراف، قال: ليش ما حجيتو حتى نعلكها. أي تصبح الجلسة للشرب والخمر. فأجابه عبد الرزاق بأسلوبه: غير رب البيت يحجي؟ خليها غير مرة.
* * *
في العام 1970، أي بعد اتفاقية اذار في ذلك العام، نظمت بعض المؤسسات الكردية في 19 حزيران في احدى السينمات تجمعاً حاشداً في ذكرى وفاة الشاعر الكردي الرائد الحاج توفيق ثيرةميَرد. ودعي مجموعة من الأدباء والأساتذة من بغداد على رأسهم الجواهري، وكان بين المدعويين أصدقاء الجواهري الثابتين، الدكتور مهدي المخزومي والدكتور شاكر خصباك والدكتور علي جواد الطاهر. ذهبت الى الجواهري (مكلفاً) بدعوته وعائلته. فرح الجواهري بالدعوة وقال: أنت أدعو (أم نجاح). وقلت لأم نجاح: الدعوة لأبي فرات ولكِ ولمن تشاؤون من العائلة. بدأ الجواهري يذكر الأسماء من العائلة، وقال: ابعثوا خبراً لأختي في النجف لتأتي معنا. كنا جمهرة من الأدباء الكرد والعرب في بغداد انطلقنا سوية. اختليت بالجواهري في الدار وقلت له: هذه هي المرة الأولى تريد جمع شمل العائلة بهذه الصورة. قال لي: كنت أظنك عاقلاً يا عزي، هذه سفرة جميلة لهم جميعاً وستعطيني حجة لأسافر وحدي الى براغ.
جئنا الى السليمانية في موكب مهيب. كان معنا عدد من الكرد الساكنين في بغداد. أتذكر أنني كنت في سيارة صديقي المرحوم نوري الشيخ حسن الذي كان معنا. (لم تكن هناك طائرات آنذاك بين بغداد والسليمانية) . توقف الموكب للراحة في مقهى (أو متنزه) قرةهنجير، وشربنا كؤوساً من الشاي، فلما نهضنا ذهبت الى صاحب المحل كي أدفع الحساب. رفض صاحب المحل قبض أي مبلغ (ولم يكن قليلاً)، وقال: أنتم قادمون وعلى رأسكم الجواهري وتذهبون لإحياء ذكرى ثيرةميَرد، فكيف آخذ منكم النقود. هرعت الى الجواهري ورويت له ما قيل، فذهب رأساً الى الرجل وصافحه وشكره وقد فرح بذلك.
عندما وصلنا الى السليمانية، كان الاستاذ فائق هوشيار قد اعد مسبقاً، أظن تلفونياً، بيوتا وفنادق لراحة الضيوف، وكان قد اعدّ بيته الذي كانت والدته (رحمة خان-ابنة بيره ميرد) تسكنه لراحة آل الجواهري.
ولكن الجواهري أبى أن يسكن الدار وطالب بغرفة في فندق، ولا أتذكر هل نحن اقترحنا أو هو أو الاستاذ فائق هوشيار، فنقلناه الى فندق في سرجنار وجلسنا معه فترة على النبع.
كان يريد الاختلاء ليكتب كلمته، وكان يقول: لو تتركوني لابقى عدة ليال ساهراً فوق هذا النبع، وذهب الى غرفته ليكتب الكلمة وتركناه هو هناك. وقد آن أن أعود الى المدينة حضر كل من شيركو بيكس ومحمود زيور يريدان رؤية الجواهري.
ولم يجدِ توسلي في تركه الان في خلوته، وألحا عليّ لاْكون معهما وأعرّفه بهما، فذهبت ونقرت الباب وشرحت الحاح الاخوين عليّ لرؤيته، وقدمتهما: هذا شيركو بيكس ابن أخيك بيكس (فللجواهري قصيدة بعنوان - أخي بيكس)، وهذا ابن الشاعر البارز زيور، رائد النشيد الكردي والادب التعليمي الكردي...ألخ.
جلسنا فترة عنده وطلبت الشاي من الفندق للجميع، فلما ودعناه اخرني لحظة ليقول لي: (طاح حظك)، جايبلي هل الوجوه الكشرة، شنو أبناء الشعراء؟ عباللي جايب لي بنات حلوات.
في صباح اليوم الثاني ذهبنا بطلب من الجواهري الى رابية مامه ياره وضريح بيره ميرد، ثم ذهبنا الى رابية سيوان فزار ضريح الشهيدين مصطفى خوشناو ومحمد قدسي، إذ أن يوم وفاة بيره ميرد في 19 حزيران هو يوم إعدامهما، وطلب زيارة ضريح عبدالوحد نوري أيضا.
وعصرا انعقدت الندوة أو الاجتماع في قاعة إحدى السينمات، فتلا كلمته النثرية الرائعة، فتسلمها منه الصحفي كمال رؤوف، الذي يعيش الآن في هولندة، وطلبت منه الكلمة عدة مرات لننشرها أو يقوم هو بنشرها، فأنكر وجودها عنده، وأظن أنه كان يريد نشرها بنفسه في وقت يستحسنه.
جميع التعليقات 2
ابو ظلال
برحيل الجواهري أي مشعل للشعر قد أنطفأ وأي قلب توقف عن الخفقان سلمت استاذنا الكبير عزالدين مصطفى رسول
ابو ظلال
برحيل الجواهري أي مشعل للشعر قد أنطفأ وأي قلب توقف عن الخفقان سلمت استاذنا الكبير عزالدين مصطفى رسول