توالتِ الهجماتُ على اللامنتمي و كانت هذه الهجماتُ تعلو نبرتُها كلّما زاد دفق الشهرة و الجماهيريّة الّتي ارتبطت باسمي ، فكان أن طلبَ إليّ صديقي ( جون ريتي ) كتابة مقالةٍ في مجلّته ( Intimate Review ) و ألصق إعلاناتٍ تحملُ صورتي و تبشِّرُ بمقالتي الموع
توالتِ الهجماتُ على اللامنتمي و كانت هذه الهجماتُ تعلو نبرتُها كلّما زاد دفق الشهرة و الجماهيريّة الّتي ارتبطت باسمي ، فكان أن طلبَ إليّ صديقي ( جون ريتي ) كتابة مقالةٍ في مجلّته ( Intimate Review ) و ألصق إعلاناتٍ تحملُ صورتي و تبشِّرُ بمقالتي الموعودة على كلّ جدران قطارات الأنفاق تحت الارضيّة ( Underground ) . و هكذا صرْتُ أرى وجهي يحدّقُ فيّ كلّ مرّة كنتُ أستقلّ فيها واحداً من تلك القطارات . و لكنّ هذا الإجراء دفع بالنقّاد إلى الغلوّ في انتقاداتهم إلى الحدّ الّذي دفع صديقي المُقرّب ( أنغوس ويلسون Angus Wilson ) إلى دعوتي للغداء و إخباري أنّ الحملة العدائيّة ضدّي ستمضي بلا هوادة و ستصبحُ هوجاء أكثر من ذي قبلُ ، و الأنكى من ذلك أنّ أغلب الناس يظنّونني أنا من يعمل من وراء الكواليس بمثابة المايسترو الّذي يديرُ الأوركسترا الّتي تعملُ على نفخ اسمي و جماهيريّتي . و أذكر جيّداً أنّني أخبرتهُ بأنّ خبرتي مع الشؤون الإعلاميّة لم تكن لتفوقَ الخبرة المتوفّرة لكرة قدمٍ – من غير لاعبين – في إحراز الأهداف !! ، و رأى الرجل أنّ من الأفضل لي أن أبتعد عن لندن و لو لفترةٍ محدّدة و البقاء هناك قدر ما أستطيع ، و صار واضحاً لديّ بعد ستّة شهورٍ من نشر اللامنتمي أنّ الشعور السائد لدى طبقة الإنتلجنسيا البريطانيّة أنّ اللامنتمي كان هبّة جنون سرعان ما تخبو نارُها و تموتُ كما يطالُ الموت جسداً هرِماً بشكلٍ طبيعيّ و أنّني سأعود بعدها حتماً إلى كهف النسيان و خفوت الذّكر الّذي انبثقْتُ منه على نحوٍ غير متوقّع ، و هنا قرّرْتُ أنّ الوقت حان لمغادرة لندن ، و كان مراسلٌ صحفيّ يدعى ( هيو هاكستول سمث ) عرض أمامي إستخدام غرفتيْن في منزله بمنطقة توتنس Totnes في مقاطعة ديفون Devon ، و كان هذا يبدو حلّاً معقولاً للغاية . و الغريبُ أنّني لم أكن أعرف شيئاً عن السيّد سمث و لم ألتقِ به يوماً و كلّ ما عرفته عنهُ أنّه كان ألّف مقرّرات دراسيّة في مادة الفيزياء ، وألحّ صديقي بيل هوبكينز على مرافقتي و المكوث معي لبضعة أسابيع و هذا ما حصل فعلاً و انطلقْنا جميعاً إلى ديفون في شهر تشرين الثاني من ذلك العام . لم يَطِبْ لي البقاء في المنزل مع صديقي بيل بعيداً عن جوي و كتبي و موسيقاي المحبّبة . و بعد أسبوعً لا أكثر وجدنا انفسنا أنا و بيل و قد عدْنا إلى لندن ، و لكن لم يكن مكوثُنا هناك من غير فائدة فقد وضعتُ مخطّطاً لكتابٍ قادم لي أسميْتهُ ( المصلحون الروحانيّون Spiritual Reformers ) و هو العنوان الاصليّ لمخطوطة الكتاب الّذي نُشِر لاحقاً تحت عنوان ( الدّين و المُتمرّد ) كما كتب بيل هناك فصلاً من كتاب ( المقدس و الخراب ) و عندما أسترجعُ ذاكرتي اليوم أرى أنّ الأفضل لو مكثْتُ خارج لندن فما حصل في بضعة الشهور اللاحقة أثبت أنّه الفصل الأكثر إيلاماً و سوءا في كتاب حياتي بأكملها .
كان والدي تلك الأيّام قد غدا عصبيّاً هو الآخر : فمع نشر اللامنتمي و النجاح الّذي حصده الكتاب كان من الطبيعيّ أن يتملّك الزهو والدي إلى حدّ الغرور بعض الأحيان و كان دائم التباهي بالإنجاز المميّز الّذي حقّقه إبنه . و لكن بعد بضعة أشهرٍ صار مستاءً للغاية عندما راح أصدقاؤه في جمعيّة جادّة كولمان Coleman Road Club يمطرونه باسئلةٍ من نوع " ما الّذي حلّ بولدك ؟ و لماذا يعيشُ في جُحْرٍ متخفيا مثل جرذٍ ؟ " و كان والدي يتعامل بحساسيّة مؤذيةٍ - على العكس منّي – مع كلّ ما كانت تقوله عنّي الصحف .
دعاني الناشرُ غولانز يوماً لمقابلته و عندما ذهبتُ إليه نصحني - بالضبط كما فعل أنغوس ويلسون - بمغادرة لندن و المكوث خارجها لأطولِ وقتٍ ممكن و أخبرني بوضوحٍ أنّ ثمّة إنطباعا شائعا بأنّني رجلٌ باحثٌ عن الشهرة المجانيّة و أنّ هذا الأمر ستكونُ له تبِعاتهُ المؤذية و سيقود إلى المزيد من المواقف العدائيّة تجاهي و بخاصّة متى ما فكّرتُ في نشر كتابٍ ثانٍ لي و هو الأمر الّذي كنتُ أعتزمه فعلاً . كانت تتملّكني لهفةٌ منذ زمنٍ بعيد للسكن في جزر ( هبريدس Hebrides ) الّتي كنتُ أرى فيها واحةً رومانتيكيّة رائعة . و لكن حصل عندما زرتُها أن امتلأتُ بخيبة أملٍ لا توصف و ودَدْتُ لو لم أزرْها فقد كانت خانقة الرطوبة . و لكنّ صديقاً لي كان يسكنُ في الغرفة المجاورة لغرفتي عرض عليّ وقتَها عرضاً بديلاً عن السكن في جزر الهبريدس : كان الرجلُ شاعراً اسمه لويس إديان Louis Adeane و يعملُ لدى أحد الناشرين اللندنيّين . و حصل أن استبدّ بالرجل الحنين للعودة إلى بلدة كورنوال Cornwall و ذهب فعلاً و استأجر كوخاً ريفيّاً هناك لقاء أجرٍ أسبوعيّ قدره خمسةٌ و عشرون شلناً و لكن عرض له أمرٌ استوجب مكوثه في لندن و ابتعادَهُ عن كورنوال لسنتيْن متتاليتيْن لذا قدّم عرضه لي باستئجار كوخه الريفيّ لقاء ثلاثين شلناً في الأسبوع و طلب إليّ بإصرارٍ أن أقبل عرضهُ الّذي سيوفّرُ عليه دفع الإيجار الشهريّ و سيجعله يربح خمسة شلنات فوق ذلك كلّ أسبوع . ذهبنا أنا و جوي لإلقاء نظرةٍ على ذلك الكوخ الريفيّ أحد أيّام نهاية الأسبوع أوائل آذار من ذلك العام و نزلنا أوّل الأمر و نحن في طريقنا بنزُلٍ يديره الشاعر و الناقد دي. إس. سافاج D. S. Savage و في صباح اليوم التالي استأجرنا تاكسياً أخذَنا إلى الكوخ الريفيّ و كان عليْنا أن نمشي لنصف ميل عبر مسارٍ مليء بمُخلّفات روث البقر . كان ذلك الصباحُ مُشعّاً و رائعاً و ما إن رأيتُ الكوخ من بعيد حتّى أدركْتُ أنّ حسن الحظّ كان ينتظرنا : كان الكوخُ قابعاً بسكون على قمّة تلّة يمكنُ رؤية البحر من سفحها الآخر و كان ثمّة جدولُ ماءٍ يمرّ أمام الكوخ و يُحدِثُ خريراً شبيهاً بصوت إنهمار المطر . كان الكوخُ مبنيّاً على الطراز الإليزابيثيّ و كان يدعى تقليديّاً ( الجدران العتيقة Old Walls ) في إشارةٍ إلى جدرانه السميكة البالغة قدميْن و المطليّة باللون الأبيض ، و لم يكن في الكوخ مصدرٌ للكهرباء و كانت الإضاءةُ الوحيدة المتاح توفّرها بضعةُ مصابيح نفطيّة ، و كان الموقد لا يعدو قنّينة صغيرة تعمل على الغاز ، و كان المرحاضُ في حاجة لتنظيفٍ و شطفٍ بالماء و لكنّ الكوخ بعامّة كان يبدو جذّاباً للغاية حتّى أنّني قلقْتُ من تصوّر خيبة الأمل الّتي سنكونُ عليها لو حاول لويس العدول عن رأيه و العودة للسكن في الكوخ قبل انقضاء فترة السنتيْن الّتي اتّفقْنا عليها . اتّفقْنا أنا و جوي على استئجار الكوخ و دفعْنا مبلغ الإيجار مقدّماً ، و لكن قبل أن ننتقل للسكن فيه كان يتوجّبُ علينا إيجادُ مصدرٍ للكهرباء لأكون قادراً على سماع موسيقاي المُحبّبة إلى روحي و كان هذا بالضرورة يعني نصبَ مولّدةٍ للكهرباء في الكوخ ، و كان ينبغي ،للحصول على الماء الحار، إبقاء الموقد شغّالاً في حمّام الكوخ ، و كان يمكننا الحصولُ على ماء الشرب من بئرٍ حفرناها في حديقة الكوخ . اشتريْتُ مولّدة كهرباءٍ لقاء مائةٍ من الباونات و ساعدني صديقي مايك ويات Mike Whyatt - الّذي سيثبِتُ لاحقاً أنّه كاتبٌ رائعٌ و شديد الذكاء – في عمل التمديدات الكهربائيّة ، و لم يكنْ ثمّة تلفازٌ في الكوخ و بصراحةٍ لم نكن نرغبُ في واحدٍ طالما لم تكنْ امامنا خياراتٌ كثيرةٌ متاحةٌ في إنتقاء البرامج ، و في أوّلِ يومٍ لنا في الكوخ و عندما استلقيْتُ عصر أحد المساءات مسترخياً في مقعدي أمام موقد النار و أنا أشارِكُ صديقي مايك قنّينةً من النبيذ شعرْتُ أنّني و جوي قد عثرنا أخيراً على فردوْسِنا المفقود.