TOP

جريدة المدى > عام > فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الخامس عشر

فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الخامس عشر

نشر في: 24 فبراير, 2015: 06:03 ص

توالتِ الهجماتُ على اللامنتمي و كانت هذه الهجماتُ تعلو نبرتُها كلّما زاد دفق الشهرة و الجماهيريّة الّتي ارتبطت باسمي ، فكان أن طلبَ إليّ صديقي ( جون ريتي ) كتابة مقالةٍ في مجلّته ( Intimate Review ) و ألصق إعلاناتٍ تحملُ صورتي و تبشِّرُ بمقالتي الموع

توالتِ الهجماتُ على اللامنتمي و كانت هذه الهجماتُ تعلو نبرتُها كلّما زاد دفق الشهرة و الجماهيريّة الّتي ارتبطت باسمي ، فكان أن طلبَ إليّ صديقي ( جون ريتي ) كتابة مقالةٍ في مجلّته ( Intimate Review ) و ألصق إعلاناتٍ تحملُ صورتي و تبشِّرُ بمقالتي الموعودة على كلّ جدران قطارات الأنفاق تحت الارضيّة ( Underground ) . و هكذا صرْتُ أرى وجهي يحدّقُ فيّ كلّ مرّة كنتُ أستقلّ فيها واحداً من تلك القطارات . و لكنّ هذا الإجراء دفع بالنقّاد إلى الغلوّ في انتقاداتهم إلى الحدّ الّذي دفع صديقي المُقرّب ( أنغوس ويلسون Angus Wilson ) إلى دعوتي للغداء و إخباري أنّ الحملة العدائيّة ضدّي ستمضي بلا هوادة و ستصبحُ هوجاء أكثر من ذي قبلُ ، و الأنكى من ذلك أنّ أغلب الناس يظنّونني أنا من يعمل من وراء الكواليس بمثابة المايسترو الّذي يديرُ الأوركسترا الّتي تعملُ على نفخ اسمي و جماهيريّتي . و أذكر جيّداً أنّني أخبرتهُ بأنّ خبرتي مع الشؤون الإعلاميّة لم تكن لتفوقَ الخبرة المتوفّرة لكرة قدمٍ – من غير لاعبين – في إحراز الأهداف !! ، و رأى الرجل أنّ من الأفضل لي أن أبتعد عن لندن و لو لفترةٍ محدّدة و البقاء هناك قدر ما أستطيع ، و صار واضحاً لديّ بعد ستّة شهورٍ من نشر اللامنتمي أنّ الشعور السائد لدى طبقة الإنتلجنسيا البريطانيّة أنّ اللامنتمي كان هبّة جنون سرعان ما تخبو نارُها و تموتُ كما يطالُ الموت جسداً هرِماً بشكلٍ طبيعيّ و أنّني سأعود بعدها حتماً إلى كهف النسيان و خفوت الذّكر الّذي انبثقْتُ منه على نحوٍ غير متوقّع ، و هنا قرّرْتُ أنّ الوقت حان لمغادرة لندن ، و كان مراسلٌ صحفيّ يدعى ( هيو هاكستول سمث ) عرض أمامي إستخدام غرفتيْن في منزله بمنطقة توتنس Totnes في مقاطعة ديفون Devon ، و كان هذا يبدو حلّاً معقولاً للغاية . و الغريبُ أنّني لم أكن أعرف شيئاً عن السيّد سمث و لم ألتقِ به يوماً و كلّ ما عرفته عنهُ أنّه كان ألّف مقرّرات دراسيّة في مادة الفيزياء ، وألحّ صديقي بيل هوبكينز على مرافقتي و المكوث معي لبضعة أسابيع و هذا ما حصل فعلاً و انطلقْنا جميعاً إلى ديفون في شهر تشرين الثاني من ذلك العام . لم يَطِبْ لي البقاء في المنزل مع صديقي بيل بعيداً عن جوي و كتبي و موسيقاي المحبّبة . و بعد أسبوعً لا أكثر وجدنا انفسنا أنا و بيل و قد عدْنا إلى لندن ، و لكن لم يكن مكوثُنا هناك من غير فائدة فقد وضعتُ مخطّطاً لكتابٍ قادم لي أسميْتهُ ( المصلحون الروحانيّون Spiritual Reformers ) و هو العنوان الاصليّ لمخطوطة الكتاب الّذي نُشِر لاحقاً تحت عنوان ( الدّين و المُتمرّد ) كما كتب بيل هناك فصلاً من كتاب ( المقدس و الخراب ) و عندما أسترجعُ ذاكرتي اليوم أرى أنّ الأفضل لو مكثْتُ خارج لندن فما حصل في بضعة الشهور اللاحقة أثبت أنّه الفصل الأكثر إيلاماً و سوءا في كتاب حياتي بأكملها . 

كان والدي تلك الأيّام قد غدا عصبيّاً هو الآخر : فمع نشر اللامنتمي و النجاح الّذي حصده الكتاب كان من الطبيعيّ أن يتملّك الزهو والدي إلى حدّ الغرور بعض الأحيان و كان دائم التباهي بالإنجاز المميّز الّذي حقّقه إبنه . و لكن بعد بضعة أشهرٍ صار مستاءً للغاية عندما راح أصدقاؤه في جمعيّة جادّة كولمان Coleman Road Club يمطرونه باسئلةٍ من نوع " ما الّذي حلّ بولدك ؟ و لماذا يعيشُ في جُحْرٍ متخفيا مثل جرذٍ ؟ " و كان والدي يتعامل بحساسيّة مؤذيةٍ - على العكس منّي – مع كلّ ما كانت تقوله عنّي الصحف .
دعاني الناشرُ غولانز يوماً لمقابلته و عندما ذهبتُ إليه نصحني - بالضبط كما فعل أنغوس ويلسون - بمغادرة لندن و المكوث خارجها لأطولِ وقتٍ ممكن و أخبرني بوضوحٍ أنّ ثمّة إنطباعا شائعا بأنّني رجلٌ باحثٌ عن الشهرة المجانيّة و أنّ هذا الأمر ستكونُ له تبِعاتهُ المؤذية و سيقود إلى المزيد من المواقف العدائيّة تجاهي و بخاصّة متى ما فكّرتُ في نشر كتابٍ ثانٍ لي و هو الأمر الّذي كنتُ أعتزمه فعلاً . كانت تتملّكني لهفةٌ منذ زمنٍ بعيد للسكن في جزر ( هبريدس Hebrides ) الّتي كنتُ أرى فيها واحةً رومانتيكيّة رائعة . و لكن حصل عندما زرتُها أن امتلأتُ بخيبة أملٍ لا توصف و ودَدْتُ لو لم أزرْها فقد كانت خانقة الرطوبة . و لكنّ صديقاً لي كان يسكنُ في الغرفة المجاورة لغرفتي عرض عليّ وقتَها عرضاً بديلاً عن السكن في جزر الهبريدس : كان الرجلُ شاعراً اسمه لويس إديان Louis Adeane و يعملُ لدى أحد الناشرين اللندنيّين . و حصل أن استبدّ بالرجل الحنين للعودة إلى بلدة كورنوال Cornwall و ذهب فعلاً و استأجر كوخاً ريفيّاً هناك لقاء أجرٍ أسبوعيّ قدره خمسةٌ و عشرون شلناً و لكن عرض له أمرٌ استوجب مكوثه في لندن و ابتعادَهُ عن كورنوال لسنتيْن متتاليتيْن لذا قدّم عرضه لي باستئجار كوخه الريفيّ لقاء ثلاثين شلناً في الأسبوع و طلب إليّ بإصرارٍ أن أقبل عرضهُ الّذي سيوفّرُ عليه دفع الإيجار الشهريّ و سيجعله يربح خمسة شلنات فوق ذلك كلّ أسبوع . ذهبنا أنا و جوي لإلقاء نظرةٍ على ذلك الكوخ الريفيّ أحد أيّام نهاية الأسبوع أوائل آذار من ذلك العام و نزلنا أوّل الأمر و نحن في طريقنا بنزُلٍ يديره الشاعر و الناقد دي. إس. سافاج D. S. Savage و في صباح اليوم التالي استأجرنا تاكسياً أخذَنا إلى الكوخ الريفيّ و كان عليْنا أن نمشي لنصف ميل عبر مسارٍ مليء بمُخلّفات روث البقر . كان ذلك الصباحُ مُشعّاً و رائعاً و ما إن رأيتُ الكوخ من بعيد حتّى أدركْتُ أنّ حسن الحظّ كان ينتظرنا : كان الكوخُ قابعاً بسكون على قمّة تلّة يمكنُ رؤية البحر من سفحها الآخر و كان ثمّة جدولُ ماءٍ يمرّ أمام الكوخ و يُحدِثُ خريراً شبيهاً بصوت إنهمار المطر . كان الكوخُ مبنيّاً على الطراز الإليزابيثيّ و كان يدعى تقليديّاً ( الجدران العتيقة Old Walls ) في إشارةٍ إلى جدرانه السميكة البالغة قدميْن و المطليّة باللون الأبيض ، و لم يكن في الكوخ مصدرٌ للكهرباء و كانت الإضاءةُ الوحيدة المتاح توفّرها بضعةُ مصابيح نفطيّة ، و كان الموقد لا يعدو قنّينة صغيرة تعمل على الغاز ، و كان المرحاضُ في حاجة لتنظيفٍ و شطفٍ بالماء و لكنّ الكوخ بعامّة كان يبدو جذّاباً للغاية حتّى أنّني قلقْتُ من تصوّر خيبة الأمل الّتي سنكونُ عليها لو حاول لويس العدول عن رأيه و العودة للسكن في الكوخ قبل انقضاء فترة السنتيْن الّتي اتّفقْنا عليها . اتّفقْنا أنا و جوي على استئجار الكوخ و دفعْنا مبلغ الإيجار مقدّماً ، و لكن قبل أن ننتقل للسكن فيه كان يتوجّبُ علينا إيجادُ مصدرٍ للكهرباء لأكون قادراً على سماع موسيقاي المُحبّبة إلى روحي و كان هذا بالضرورة يعني نصبَ مولّدةٍ للكهرباء في الكوخ ، و كان ينبغي ،للحصول على الماء الحار، إبقاء الموقد شغّالاً في حمّام الكوخ ، و كان يمكننا الحصولُ على ماء الشرب من بئرٍ حفرناها في حديقة الكوخ . اشتريْتُ مولّدة كهرباءٍ لقاء مائةٍ من الباونات و ساعدني صديقي مايك ويات Mike Whyatt - الّذي سيثبِتُ لاحقاً أنّه كاتبٌ رائعٌ و شديد الذكاء – في عمل التمديدات الكهربائيّة ، و لم يكنْ ثمّة تلفازٌ في الكوخ و بصراحةٍ لم نكن نرغبُ في واحدٍ طالما لم تكنْ امامنا خياراتٌ كثيرةٌ متاحةٌ في إنتقاء البرامج ، و في أوّلِ يومٍ لنا في الكوخ و عندما استلقيْتُ عصر أحد المساءات مسترخياً في مقعدي أمام موقد النار و أنا أشارِكُ صديقي مايك قنّينةً من النبيذ شعرْتُ أنّني و جوي قد عثرنا أخيراً على فردوْسِنا المفقود.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وفاة المخرج السينمائي العراقي محمد شكري جميل

الداخلية: طرد أكثر من 4 آلاف منتسب وإحالة 15 ألف قضية إلى المحاكم

ائتلاف المالكي يحذر من عودة المفخخات والتهديدات الارهابية الى العراق

طقس صحو والحرارة تنخفض بعموم العراق

الفصائل تهدد "عين الأسد" بسبب احتمالات بقاء الأمريكيين فترة أطول في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

ليلة مع إيمي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram