عندما صعدنا إلى القطار، لم نعرف بأنه لن يحملنا إلى واد منعزل في جبال البرنس وحسب، حيث خططنا لقضاء الإجازة لمدة أسبوع، إنما بأنه سيحملنا أيضاً إلى بلاد نادرة الوجود وسرية، بلاد لا تحوي على ملامح جغرافية، لا يذهب إليها أحد أبداً. في الحقيقة، انها أرض، أكثر مما تكون بلاداً بالمعنى المتعارف عليه، أو من الأفضل القول، أنها مكان لا يوجد، يوتوبيا بالمعنى الأدبي للعبارة: مكان ليس هو بمكان، ولا يوجد على الخارطة. لا يمكن تطبيق أية معرفة عنها عن بعد، مثلما من غير الممكن تكوين فكرة عامة عنه. في طريق الذهاب إلى هذه البلاد ، ما أن يجلس المرء في القطار، حتى يكتشف أن القطار ذاته يشكل جزءاً من المكان، وأيضاً الساعات الممتدة والهادئة للرحلة باتجاه الجنوب، لم تكن تنتهي مع انطفاء آخر ضوء للنهار، قبل التحاقه بالليلة المغلقة. عندما وصلنا ونزلنا على الرصيف، كان الظلام قد فرش سجادته المزركشة بالنجوم، في محطة يتنفس فيها المرء الهواء البارد المعطر بنكهة تحمل معها نكهة الجبال العالية.
البلاد التي أتحدث عنها ببهجة، من الممكن أن تحوي على عوالم غير محدودة، وعلى أزمان بعيدة تصبح حاضرة، وعلى شخصيات إنسانية عاشت منذ زمان بعيد أو لم توجد إطلاقاً، ولكن رغم ذلك تتمتع بكامل الشروط التي يحتاجها المرء للإقامة فيها ما شاء من الوقت. أمر آخر يميزها عن بقية الأماكن، أو يجسد اختلافها، أو تفردها المطلق، وهو غياب شاشة التلفزيون. لا فلماً أميركياً فظاً من أفلام الرعب هذه، أو ما يطلقون عليه الـ بلاكباستر، فقط تلك المناظر التي كنا نحس بها حتى عندما نغمض أعيننا. حتى عندما كنا نشعر بأننا شبه نائمين مغناطيسياً! كل واحد منا في يده كتاب. كم هي لذيذة القراءة خلال ساعات الهدوء، هدوء الطبيعة وهدوء الجالس في مقعد مريح جداً وحوله توزع الشمس بسخاء أشعتها.
لم نكن نعرف أن تلك الساعات لن تكون إنذاراً، إنما هي بداية زمن فسيح سيستمر سبعة أيام، لأن الفندق الذي نزلنا فيه، امتلك هواء مثل هواء فندق "الجبل السحري" في رواية توماس مان، لم تكن هناك تلفزيونات في الغرف. كان هناك تلفزيون واحد في الصالون، بدولابه الكبير الذي يحمل لون سفوح الغابة وأرائكه المنخفضة على الطريقة المريحة القديمة، ومن يشغله، لن يرى أمامه غير صورة سيئة ومشوشة بتكرار، كأن أحداً شغله قبل سنين، وتركه على حاله هناك وسط الصالون وحيداً، ديكوراً وحسب!
كل شيء ساحر، كأن العيون تحررت من رؤية كل شيء هو غير واقعي، كأن عليها التدرب على أن تكون أكثر تأهيلاً بالإحساس بما حولها، أن تكون أكثر نباهة بالمنظر الجميل الذي يُعرض أمامها. الليلة الأولى عند الوصول، التقينا بسماء عريضة، لا ظلال فيها، سماء تمدد عليها بضيائه قمر لم يكتمل بعد، فيما افترشتها نجوم لا تُحصى، تلمع في كل مكان، كأنها تبعث نداء يقول، أنظروا لي، ها أنا أمامكم، وكنا نسمع همهمة مياه جارية تنجرف بصخب غير مرئي. لكن الضوء الخامل والرطب للصباح كشف أمامنا عالماً خارق للعادة لعيوننا القادمة من المدينة، سلسلة الجبال ومعها الغابات الممتدة تنعكس في ماء البحيرة القريبة.
على هذا الشكل، كان الزمن يتمدد، يصبح أكثر عمقاً، نألف معه العادات البسيطة، على خطواتنا ونحن نسير عبر الغابة أو على ضفاف البحيرة، والأكثر دهشة، نعتاد على إيقاع القراءة، الساعات تمر، والكتب لا تفارق أيدينا، تحولت إلى إدمان مشترك جميل، لذة وحاجة مستمرة. كنا نقرأ بحماس ،غائبين عما يحيط بنا، نعدي أحدنا الآخر، بالضبط نتبادل الكتب التي ننتهي من قراءتها للتو. مغامرات توم سواير، البحث عن كرة البيسبول عند شخصيات ديلليلو في "البيت التحتي"، الرحلة الغامضة التي لا تخلو من البحث لبطل ريتشارد فورد في "كندا"، القصص البسيطة لأنغو شولتز، مغامرات بطلات مودينا غرانديس مع رجالهن نصف الخاسرين، أحلام شخصيات أونيتي الغريبة، التحريات والنقاشات الطويلة للمفتش ميغريه في روايات كلود سيمون، الفخاخ الملتوية في قصص خوليو كورتازر، محن وشدائد وحدة روبنسين كروسو، عزلة دميان في براري هيرمان هيسه، تنفس الهواء مع توماس مان في فندق الجبل السحري: خلال أيام قليلة كنا نعيش في المملكة المزدوجة للطبيعة العالية والأدب.
نعم أعرف أنه من المستحيل العيش دائماً في هذه البلاد القريبة من اليوتوبيا، لكنها قوة اليوتوبيا التي تجعلنا نشتاق إليها من حين إلى آخر، فنذهب إليها لقضاء الإجازة، لا يهم لمدة أسبوع، حاملين حقائب فردية صغيرة معبأة بالكتب وحسب، بهذه الشكل فقط، نعرف، أننا نعيش!
فندق الجبل السحري
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2015: 03:04 ص