كنا قد رأينا، في الجزء السابق من موضوع (المؤتمرات العلمية) أن من سخريات الواقع الأكاديمي، ونحن نستبشر خيراً بالعهد الجديد للتعليم العالي، أنْ يتواصل صدور التعليمات بشأن المشاركة في المؤتمرات، وكأنّ بعض المسؤولين لم يرتووا بعدُ من تعذيب الأساتذة، بينم
كنا قد رأينا، في الجزء السابق من موضوع (المؤتمرات العلمية) أن من سخريات الواقع الأكاديمي، ونحن نستبشر خيراً بالعهد الجديد للتعليم العالي، أنْ يتواصل صدور التعليمات بشأن المشاركة في المؤتمرات، وكأنّ بعض المسؤولين لم يرتووا بعدُ من تعذيب الأساتذة، بينما يجد مسؤولون آخرون في المشاركة في المؤتمرات نوعاً من الترف الذي لا يحتاجه الأستاذ ولا القسم والكلية والجامعة ولا التعليم العالي والبلد.
والواقع أني كنت أستغرب أنْ أرى كم يعاني الأستاذ الذي يحاول المشاركة في مؤتمر علمي يُعقد خارج العراق، بل أكثر من ذلك يكاد يُحارَب بما هو معلن وما هو غير معلن من سلسلة طلبات الإذلال وإجراءات التعذيب، ومنها ما سيرد فيما سيأتي مما خبرناه ولاقيناه عملياً. وأنا حين أقول (منها)، ولا أقول (وهي)، فلأن هذه الـ(منها) هي التي يلاقيها كل مُقدم على طلب الموافقة على مشاركة في مؤتمر، ولكن هناك غيرها مما قد تبرز لهذا الموفد أو ذاك. فتصديقاً لما نقول وتواصلاً مع الحديث عمّا يلاقيه الراغب في المشاركة في مؤتمر واستكمالاً لتفاصيل رحلة المهانة والعذاب، التي رأينا في المقال السابق أطرها، المكتوبة في تعليمات، ويجب أن يقطعها لتحقيق هذه المشاركة، استحضرُ تجربتين شخصيتين لي أكملتُ هذه الرحلة في إحداهما، بينما تراجعتُ عن إكمالها في التجربة الثانية حفظاً لكرامتي .
أولى هاتين التجربتين كانت مشاركتي في مؤتمر بجامعة لندن سنة 2011، وقد أكملت المرحلة الأولى من مسيرة التعب- نعني الموافقات اللازمة للمشاركة- من سلسلة المراجعات المتعبة بين الكلية والجامعة وتحمّلتُ ما يرافقها من منغّصات دائرة العلاقات الثقافية، ومن ورائها رئاسة جامعة بغداد بالطبع، وطلباتها المتعبة وغير الحضارية التي تكاد لا تنتهي، وشاركت في المؤتمر، منفقاً من جيبي على سفري، بينما تولّت جامعة لندن تكاليف إقامتي. وفي النهاية، وبعد عودتي، كان عليّ أن أُنجز المرحلة الثانية من سلسلة المراجعات، وهي الخاصة بالمخصصات المالية التي يعرف الجميع أنها لا تغطّي ربع النفقات، والمخجلة حين نقارنها بما تبذله على الأستاذ والعلم بُلدان أغنى أو مثلنا أو حتى أقل بكثير منّا مثل بريطانيا والأردن والسعودية وماليزيا والجزائر وربما مصر والصومال وأفغانستان والسودان وغيرها. وقد أكملت هذه المرحلة رغم معاناتي، لأنتقل إلى المرحلة الثالثة من المراجعات وهي الخاصة بالشيك واستلامه، بما في ذلك قيام موظف بعمر أولادي ومستوى طلبتي بالتحقق وبشكل مهين من جواز سفري وأختام رحلتي فيه، وهو ما لا أظن جامعة في الدنيا تفعله مع أساتذتها، وصولاً إلى تهيُّؤي لاستلام الشيك، وأنا أصطحب حمايةً مدفوعة الأجر- فالدنيا مو أمان يا جماعة حين يتعلق الأمر بحمل مبلغ كبير- وهنا فوجئت بالتحفّظ على الشيك، رغم توقيعه من أصحاب الفضل في رئاسة الجامعة، بسبب صدور تعليمات من المالية تُوقِف الصرف حتى يُبتّ بقانونية (خرجية) الأساتذة الموفدين، ربما لكونها ضخمة ومؤثرة في ميزانية البلد أو لكونها تصرف على فئة هامشية هي علماء العراق. وكان عليّ أن أنتظر بعد ذلك بضعة أشهر حتى تم إطلاق الصرف، وكنا حينها قد دخلنا عاماً جديداً، لأفاجأ مرة أخرى بمن يقول في مالية الجامعة بأنه رغم إطلاق الصرف، فإن رئاسة الجامعة قد وجّهت، ولا أدري بأي حق وانطلاقاً من أي هدف واستناداً على أي منطق غير منطق رئيسها، بعدم صرف مخصصات السنة المنتهية، لماذا؟ الله وصاحب القرار فقط هما اللذان يعرفان بالطبع.
التجربة الثانية لي مع التعليم العالي والجامعة للمشاركة في مؤتمر، جاءت رغم عدم حاجتي إلى موافقة الجامعة كون مشاركتي كانت في مؤتمر تقيمه، خلال العطلة الصيفية، جامعة في الأردن التي أجد غريباً أن لا يخجل أي مسؤول أكاديمي عراقي من عدم اللحاق بما حققته أكاديمياً واهتماماً بالعلم وبالأستاذ الجامعي، وضمن ذلك كثرة المؤتمرات التي تقيمها جامعاته، وما يُصرف فيها من نفقات عليها وعلى أساتذتها وضيوفها المشاركين في المؤتمرات. على أية حال لقد أقدمت على التجربة الثانية متردداً بعد تجارب مُرّة سابقة، رغم عدم حاجتي لموافقة الجامعة كما قلت، وذلك رغبة منّي في أن أرى أين صرنا بعد ثلاث سنوات من تجربتي السابقة. ولحسن الحظ، لم أُصدم في مرحلة متأخرة من سلسلة المراجعات، بل من إحدى أبكر خطواتها المجهِضة لأي أمل في مسار صحيح وميسّر للمشاركة، فانسحبت. فبعد التيسير والترغيب اللذين نجدهما من غالبية منظمي المؤتمرات في العالم التي نرغب في المشاركة فيها، ننتقل إلى سلسلة المراجعات المتعبة لتلبية الشروط والطلبات الكثيرة التي تبدأ بالموافقة الصحيحة الوحيدة وهي الخاصة بالقسم وتحديداً موافقته على المشاركة وعلى البحث، فهي موافقة تكتسب مشروعية لأن الأقسام العلمية، وكما أشرنا في العديد من مقالاتنا السابقة، هي فقط التي تستطيع أن تقيّم الأستاذ، حين يكون هذا التقييم ضرورياً، وتقييم طبيعة المشاركة والبحث المشارك، وكل ما عدا الأقسام العلمية تقترب من أن تكون غريبة بل معرقلة للمسيرة الأكاديمية، وهو ما يجري في العراق فقط، ولا تمارسه غالبية ما عرفنا من الجامعات في العالم. من المطالب الأخرى الموافقة الأمنية غير الحضارية التي سبق لنا التوقف عندها، ثم تقديم الموافقة النهائية على موضوع الورقة البحثية المشاركة من الجهة المنظمة للمؤتمر، وقد جهل مسؤولو الجامعة، كونهم لم يشاركوا على ما يبدو بمؤتمرات علمية، أن مثل هكذا موافقة نهائية قد لا يحصل عليها المشارك إلا قبل عقد المؤتمر بمدة شهر أو نحوه، وهكذا يقع الأستاذ في مشكلة حين يجد أن عليه أن ينتظر الحصول على هكذا موافقة قبل المؤتمر ببضعة أسابيع لتقديم طلبه إلى الجامعة، لكنه في هذه الحالة سيجد نفسه غالباً قد تجاوز أحد أكثر التعليمات عبقرية وهو الذي ينصّ على أنه يجب أن يقدم طلبه إلى الجامعة قبل موعد المؤتمر بخمسة أسابيع. وحتى حين ينجح بتلبية هذا سيُفاجأ بتواصل طلبات دائرة العلاقات الثقافية مما ذكرناه في المقال السابق وفي ما مرّ من هذا المقال مما هو مقنع وما هو غير مقنع بل مما قد لا يخطر بعضه على بال أكثر مسؤولي الجامعات في العالم تعقيداً وعرقلةً وإتعاباً وتأخيراً، وربما إذلالاً، ومنها، على سبيل المثال فقط، وجوب قيام كليتك بتوحيد طلبات المشاركة في المؤتمر، وكأن هناك العشرات من المشاركين من الكلية الواحدة في المؤتمر الواحد، وليس مشاركاً أو اثنين عادة. وهكذا ليس غريباً أن يطوي بعض طالبي الموافقات أوراقهم ويحفظوا كرامتهم، ليفضلوا المشاركة بصفاتهم الشخصية وهو ما صرنا نقوم به غالباً، ففي ذلك خلاص من (وجع الراس).
استعيد هنا مما ذكرته في المقال السابق واقعة رفعي لطلب موافقة للمشاركة في مؤتمر إلى عميد الكلية، في جامعة أردنية كنت أعمل فيها في التسعينات، فحين فعلت ذلك خرج العميد من مكتبه ووجّه سكرتيرته بأن تلبي جميع طلباتي المكتبية من طباعة أو استنساخ أو اتصالات وتيسير كل شيء لتحقيق مشاركتي. وهو ما يقابله تماماً في العراق أن تقف على أبواب المسؤولين كأي ملتمس لمساعدة أو توقيع، وذلك بعض ما قادنا إلى وصف طريق المراجعات، الممتلئ بألغام المطالب العبثية، بطريق المهانة والعذاب. فسلسلة المراجعات وكثرة المطالب والتعليمات هي بحد ذاتها تعذيب للأستاذ، وأن توقف دائرة العلاقات الثقافية معاملة إيفاد انتظاراً لموافقة أمنية هو مسّ بكرامة الأستاذ، وأنا أدعو الأساتذة هنا بكل صراحة لرفض هذا الشرط، وأكثر من ذلك أنْ توقف هذه الدائرة للمعاملة أحياناً، حتى مع وجود الموافقة الأمنية، بحجة أن الكلية يجب أن لا ترسلها إليها إلا بعد أن تطلبها هي من الكلية وهم استهانة وعدم مبالاة بالأستاذ، بل حتى دفع أجرة إيقاف الاستاذ لسيارته أمام بيته، الذي هو رئاسة الجامعة، هو عندنا إهانة له. ولكن قد يكون أحد أكثر سلوكيات دائرة العلاقات إذلالاً للأستاذ أن تُفاجأ، وسط إغراق الجامعة لك ومن خلال دائرة العلاقات الثقافية، بالمكاتبات العقيمة، إنْ لم يُسمح لك حتى بانتظار تزويدك بالمكاتبات داخل الغرف المكيّفة، وهو ما شهدته تماماً في مكتب مدير العلاقات الثقافية في جامعة بغداد، الذي كان علينا أن نحصل على توقيعه في بعض مراسلاتها مع كلياتنا، وكان ذلك قبل منتصف عام 2014، حين فرضت سكرتيرته عليّ- وأنا تدريسي بلقب أستاذ وفي الستين من عمري- وعلى غيري أن نخرج من مكتبها المبرد لننتظر في الممر الساخن، الأمر الذي جعلني أترك معاملتي وأعود إلى كليتي وأطلب فيما بعد إلغاء طلبي بالموافقة على المشاركة في مؤتمر، والمشاركة، بدلاً من ذلك، بصفتي الشخصية بدلاً من المشاركة بصفتي أحد أساتذة جامعة لا تقدر أساتذتها.
وللقارئ أن يلاحظ واضحاً أن جلّ طلبات الجامعة، من خلال علاقاتها الثقافية وإجراءاتها، تقوم على عدم احترام الأستاذ، وعلى عدم تقييم قيمته العلمية العالية، والشك المسبّق به، وهو ما يتمثل في شك بنوعية المؤتمر، وشك بطبيعة ونوعية المشاركة، وشك في علاقة البحث المشارك بالتخصص، وشك في صحة تحقّق المشاركة، والأكثر شناعة هو شك بوطنية الأستاذ وسلامته الفكرية، كما يتمثل في الموافقة الأمنية، في وقت يُفترض، ما دام قد صار أستاذاً، أن يكون بعيداً عن أي نوع من الشك، وانتهاءً بفحص جواز سفره وهو المضحك المبكي. وكل هذا يتم ويلاقيه الأستاذ حين تسير الأمور بشكل اعتيادي، وإلا فإنه، في الغالب الأعم، سيمر بالعديد من المعوقات التي قد لا يحسب لها حساباً، ومما قد يصل حد الإذلال.
والآن إذا كان هذا هو حال المشاركة في المؤتمرات، فيكون ترفاً إذن أن نأمل إقامة مؤتمرات بسهولة ويسر، وهنا أتذكر أنني خلال السنتين أو الثلاث الأولى بعد عودتي إلى الوطن وإلى عملي في قسم اللغة العربية كلية الآداب- بين 2005 و2007 تم تكليفي من عميد الكلية ورئيس القسم بالإعداد لندوة أو مؤتمر من يوم واحد ليكون تجربة نحاول في ضوء نجاحها المأمول أن نقيم مؤتمراً أكبر. وحين فعلت ذلك وكشفت عن الحاجة إلى مصاريف بسيطة لتهيئة مشروبات خفيفة وبسكويت، فوجئت بالعميد يعتذر بحجة عدم إمكانية تخصيص أي مال للمؤتمر، وهو ما أشعرني وقتها بالخجل، وقد قارنت ذلك مع ما كنت أجده في مؤتمرات تُعقد لا في أحد بلدان الخليج مثلاً، بل في الأردن، حيث يتم الصرف علينا إقامةً وإطعاماً وجولات سياحية وهدايا تقديرية. وهنا قد يستغرب بعض مسؤولي التعليم العالي عندنا على هكذا بذل ورعاية مادية للعلم والعلماء بما في ذلك إقامة المؤتمرات العلمية ومشاركة أساتذة جامعات الأردن في المؤتمرات العلمية الخارجية إزاء تواضع الدخل القومي للبلد. فنجيب بكل بساطة لأن ذلك كله ينطلق من بُعْد نظرٍ لا يمتلكه جل مسؤولي التعليم العالي عندنا.
جميع التعليقات 2
الشمري فلروق
لا خير في بلد لا يحترم علمائه....!!! انه عهد وزمن الجهلة ولاميين... لقد اكمل هؤلاء ما بدأ به عهد صدام في محاربة الكفاءات والعلماء في العراق
الشمري فلروق
لا خير في بلد لا يحترم علمائه....!!! انه عهد وزمن الجهلة ولاميين... لقد اكمل هؤلاء ما بدأ به عهد صدام في محاربة الكفاءات والعلماء في العراق