في اليوم التالي 20/6/1970 نظم مسؤول الفرع الرابع للحزب الديمقراطي الكردستاني في السليمانية، وكان آنذاك الشهيد فاخر ميركه سوري، سفرة للجواهري ومن رافقوه من بغداد الى جبل بيره مه كرون، حيث الضريح ونبع الماء الزلال، ونحروا عدة خرفان، كان القصابون مهيأون
في اليوم التالي 20/6/1970 نظم مسؤول الفرع الرابع للحزب الديمقراطي الكردستاني في السليمانية، وكان آنذاك الشهيد فاخر ميركه سوري، سفرة للجواهري ومن رافقوه من بغداد الى جبل بيره مه كرون، حيث الضريح ونبع الماء الزلال، ونحروا عدة خرفان، كان القصابون مهيأون يشوون لحمها تباعا، وانتعش الجواهري وسألني: لمن هذا الضريح؟ فقلت: نحن الكرد نسميه (بيره مه كرون) ويسمى الجبل باسمه، و(بيره) هي المرتبة الكبرى عند الزرادشتيين، ولكن العارفين من المسلمين يقولون إنه لصحابي، أو ولي مسلم اسمه (عمر بن مقرون). يبدو أن الجواهري انزعج من اسم عمر فعلق: هذا(.........) هو ابن مقرون، وقال: إذن لماذا لم يوجه وجهه الى الكعبة؟ فكل مسلم يدفن وجهه الى الكعبة. لم نكن قد لاحظنا قبلاً أن جهة الوجه من ضريح بيره مه كرون ليس متوجها للكعبة. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر وجدت الجواهري وهو يحتسي الجعة (البيرة) ويرتعش برداً ويقول "الساعة الان هي الثالثة بعد الظهر وهذا البرد فأين أنت الان من بغداد (......) على الجير، هل تتماسك نفسك من الحر، حقاً نحن بلدان وشعبان مختلفان."
*****
منذ وجوده في براغ ، راح الجواهري يلبس " الكلاو" على رأسه (أي عرقجين كردي) وقد نقش عليه (كوردستان يان نه مان، أي كردستان أو الفناء)، وكان هذا شعار الثورة الكردية منذ العام 1961، وكانت الصلعة وعدم لبس قبعة أوربية سببين لذلك، وهذا (الكلاو) قد أهداه اليه الاخ مام جلال.
مرة شاهدنا الجواهري يلبس العرقجين نفسه بغير نقش (كوردستان يان نه مان)، كنت ذاهبا الى بغداد فقال لي مام جلال: حتما سترى الجواهري، إسأله عن هذا التبدل. فلما سألته أجابني الاخ المحامي رشيد بكتاش عنه قائلا: كانت سبعة عرقجينات، عندما تتوسخ تغسل وتكوى، مرة ثانية وثالثة، فتمزقت كلها فأرسلنا الى السليمانية، وبعثوا لنا بعدد من العرقجينات من السوق وليس فيها العبارة الجميلة تلك. قال الاستاذ بكتاش: قل لمام جلال ليبعث له كمية أخرى بالمواصفات الاولى. فتداخل الجواهري وقال: نعم سأضعها على رأسي باعتزاز، وقل له أنا لست ممن يبدلون (الكلاو) بين فترة وأخرى. ضحك الاخ مام جلال كثيرا وبعث إليه بعدد وافر من العرقجينات.
كانت هناك علاقة ودية حميمة بين الجواهري والاخ مام جلال، وكان الاخير في الخارج (في مصر أو دمشق)، ويبعث في كل شهر مبلغا محترما آنذاك من الدولارات للجواهري شهريا، فكان الجواهري يسافر حال تسلمه المبلغ الى برلين، ويقضي كما يريد (ليلا نابغيا ساهرا) ويعود، و(أم نجاح) الرائعة تقبل منه كل شيء وتريد راحته واستمراره في الابداع الرائع.
لم تكن آنذاك في البلاد الاشتراكية صفة (لاجئ سياسي) لقبض المال أو (سوشيال اللجوء)، فكانوا يعطون لأمثال الجواهري وناظم حكمت (وظيفة رمزية) يتقاضون عنها راتبا، فكان الجواهري مديرا أو خبيرا في معهد الاستشراق، وكثيرا ما كان يمزح معي ويقول: أنت مهتم بالدراسة والمعاهد، (ما تقول لي) هذا المعهد الذي عينت أنا فيه وين؟
***
كان الجواهري، كما أوردت في خاطرة سابقة، يبدي رأيه في قصائده ناقدا، ومرة كنت أمجد ،وانا طالب أدب، قصيدته (المقصورة)، وقد خرجت من حدودي لاقول: إن نظم (المقصورة) أمر صعب في الشعر العربي. فقال لي: أحسنت .. أحسنت، من أين لنا نحن قصائد (مقصورة)، عندنا (هي هاى) أى قصيدته، ومقصورة المتنبي ولكن أين هذه، واين تلك. إذ فضل مقصورته على مقصورة المتنبي.
كان الجواهري يجلس في بعض المقاهي في مركز براغ ويفضل واحدة على الاخريات، ولم يكن يحفظ الاسماء الجيكية للمقاهي فيطلق عليها أسماء عراقية صارت شائعة بين العراقيين، مثل (حسن عجمي)، (الروضة)...الخ.
ذات مرة كنت جالسا في حضرته في القسم المفتوح من مقهى (حسن عجمي) ننظر الى المارين أمامنا في الشارع أو (الساحة)، مرّ من أمامنا صديق عراقي معروف، وكان شابا آنذاك وهو يشبك يده في يد فتاة جميلة، فنظر اليّ الجواهري بشزر وقال: باالله عليك أنا صاحب أنيتا، وأفروديت، وأجيبينى، (من قصائده المشهورة)، أقعد لأقابل وجهك (أي أنا)، وهيجي قرد يمشي مع هيجي بنية؟ لم يكن صديقنا قردا، ومازال وهو في سن متقدمة ليس بالقرد، (ولكنه الجواهري). كانت هناك فتاة جيكية جميلة تأتي إلى مقهى (الروضة) وتجلس مع الجواهري، وتشرب القهوة والجعة على حسابه، وكان الامر موضع تعليق من العراقيين، وانتبه الجيك الى سوء الامر. وكان صديقنا الراحل قادر ديلان يعلق على الامر دائما ويفبرك (النكات والاضحوكات) على عادته، وذات مرة وأنا في موسكو، تلقيت رسالة من قادر ديلان يقول فيها: أبشرك أو أنبؤك أن الجيك نفوا (فتاة الجواهري)، أي نقلوا عملها الى مدينة بعيدة. وفرح ديلان لذلك، ولدي مثل متشابه لصديق اّخر كان في الصين.
كان الجواهري يتردد على براغ عندما كان مقيما في دمشق وعندما عاد الى بغداد، فهو يحب (براغ) ويفضلها على غيرها من المدن.
كان ثمن القهوة في مقهى (الروضة) أيام الحكم الاشتراكي، (كرونين جيكيية) فقط. ذهب الجواهري بعد انهيار الحكم الاشتراكي وجلس في مقهاه العتيد، فأذا بسعر فنجان القهوة قد إرتفع إلى أربعين كرونا وبدل أن يستاء الجواهري لذلك كان يقول: قلت براغ هسه براغ. أي أن الاسعار في هذه المدينة الراقية، الممتازة يجب أن تكون مرتفعة.
أظن أننا في العام 1964 وكنت جالسا في حضرة الجواهري في مطعم (باريس) في براغ، وكان خبر وفاة الشخصية السياسية حكمت سليمان قد وصل أو نشر، وكان الجواهري يردد طيلة الجلسة هذا ليش مات؟، ولم أتمتع بأي من أحاديثه اللطيفة. وقبل أن ننهض قلت له: يبدو أنك كنت تحب حكمت سليمان كثيرا، فاستفزه ذلك وقال: أنا أحبه؟ ها .. لا .. لا. قلت: ولكن لماذا خربت الجلسة بالسؤال عن موته؟ قال: هناك سرّ أبوح به لك، ولك وحدك. تره بس هذا كان أكبر مني في العراق، وراح، ولم أكن أحبه فأنا قد اعتقلت وشردت وأبعدت...ألخ، ولكن لم يحكم عليّ بالسجن أبداً، إلا في عهد حكمت سليمان، فقد كنت شاعر الانقلاب (ويقصد إنقلاب بكر صدقي) الذي اعتبر بعضهم حكمت سليمان مديره ومفكره، إذ أصبح رئيس وزراء الانقلاب. وكنت رئيس تحرير الجريدة التي سميت (الانقلاب)، ولكنه انزعج من مقال لي، فاعتقلني وقدمني للمحاكمة وحكمت بالسجن لمدة (ثلاثة أشهر)، وهذه هي المرة الوحيدة التي يحكم فيها عليّ بالسجن، فهل تظنني أحبه؟
وللعمر عند الجواهري قصته، ففي ديوانه الاول الذي طبع عام 1928 كتب أنه من مواليد 1897 وفي ديوانه الثاني كتب أنه ولد في العام 1900. ثم كتب أنه من مواليد العام 1903 وفي اخر مرة كتب أنه من مواليد العام 1905.
أكل هذا من خشية الموت وكرهه له، أو اختلاف في طريقة تبديل التاريخ الهجري بالميلادي؟ الله أعلم. فقد لقى وجه ربه مرفوع الرأس في العام 1997.
****
كان الجواهري معمماً عندما كان في النجف، وعندما زار فيصل الاول مدينة النجف الاشرف، أراد أن يأخذ أحد شباب الحوزة العلمية من أولاد المراجع فرّشح له الجواهري، فأخذه معه الى بغداد وعينه في البلاط الملكي بصفة مستشار (أوما أشبه)، فخلع العمامة ولبس الملابس المدنية. وكأيّ أفندي من زمانه كان يأخذه أصحابه إلى حانات زمانه، واختلط الجواهري بأصحاب الفكر التقدمي أو اليساري فكتب قصيدته المشهورة عن الاقطاع. واشتكى عدد من رجال الاقطاع عند الملك فدعاه، وقال: ماهذا يا جواهري؟ فدافع الجواهري عن قصيدته وعن نفسه أمام الملك وقال له: إذن سأترك البلاط يا جلالة الملك. فقال له الملك: لا ياجواهري لم يصل الامر إلى هذه الدرجة. ولكن الجواهري ترك البلاط فيما بعد وأصبح صحفياً واستمر في الصحافة.
****
كان الجواهري على علاقة وطيدة بالمرحوم مزاحم الامين (الباجه جى)، عندما كان وزيراً أو رئيس وزراء. روى لي الجواهري: كلما زار الباجه جى البلاط، مرّ على غرفتي ومن الباب يقول لي:
ألا قوة تستطيع دفع المظالم
وإنعاش مخلوق على الذّل نائم
ألا أعين تلقى على الشعب هاوياً
إلى حمأة الادقاع نظرة راحم
وهذان البيتان هما في مطلع قصيدته (الاقطاع)، التي أخطأت طبعة سوريا المختارة (1998) فأعتبرت القصيدة من شعره في العام 1934، في الوقت الذي روى لي الجواهري هذه القصة، وهي عن أيام فيصل الاول.
وظل الجواهري على علاقة طيبة وظلت لديه مشاعر ودية مع المرحوم مزاحم الامين الباجه جى، وفي إحدى الجلسات في براغ في العام 1964 روى لي ما دونته، وعندما قلت له: إن الباجه جى مازال على قيد الحياة وهو يعيش في فينّا مثلما أعلم، قال لي: أرجوك اعرف لي عنوانه. عهد عليّ أن أسافر إلى هناك لازوره، وكان بقائي في براغ فترة قصيرة فلم أفلح في أن أعينه على تلك الزيارة التي كان يتمناها وفاءً.
****
وفي براغ أيضاً كان الجواهري العظيم يبدي الشكوى حول أوضاع بلادنا وسوء الحكام ويذكر بعض الاخبار التي تأتي من الوطن.
وقد يكون لمجرد المشاركة وتداول الحديث تكلمت، فقد كنت اعتبر نفسي في منزلة أتمكن فيها من إزالة الآلام من قلب الجواهري العظيم، وشاركت مستشهدًا ببيت للجواهري نفسه:
لا بدّ عائدة إلى عشاقها
تلك العهود وإن حسبن ذواهبا
فنظر اليّ باستياء وقال: هو يا عهد منهن تريد أن يرجع؟ أي أن كل العهود السابقة هي سيئة ولايتمنى لأيّ منها أن يعود، ولكنني لمجرد المشاركة قلت:
يا أبا فرات أنت الذي قلت ذلك (أي ذلك البيت) ولست أنا بقائله.
****
كان المرحوم قادر ديلان يتعقب الجواهري وبعض تفاصيل حياته اليومية ويعتز ويتفاخر أنه يجلس في حضرته يومياً، ومما كتبه لي هو أن بنتا أو أمرأة جيكية شابة مكلفة بتعقيب الشؤون الرسمية للجواهري، ويبدو أن علاقتهما لم تخرج عن هذا الحدّ. كتب ديلان لي، أن المرأة جاءت إلى المقهى وجلست بغير إذن من الجواهري وأخرجت أوراقا معينة، فغضب الجواهري وقام وقال لها:
I don’t want to see you here, not in this café, in the home, only in the home.