TOP

جريدة المدى > عام > صدر عن المدى: مخاطبات الدرويش البغدادي.. الرؤية وتحولات الشعرية

صدر عن المدى: مخاطبات الدرويش البغدادي.. الرؤية وتحولات الشعرية

نشر في: 1 مارس, 2015: 06:38 ص

إن تحديث التجربة الشعرية يشترط سيرورة من التحولات الفكرية والرؤى واللغة في تنشيطها خبرة الشاعر وكشفها كوامن ذاته بما يخلق حضورا إبداعيا متجددا . ولاشك في أن ولادة أي نص تستدعي مولدات أو مرجعيات التأسيس لدى مبدعه ، فالنص انبثاق روحي بصورة لغوية ومحاول

إن تحديث التجربة الشعرية يشترط سيرورة من التحولات الفكرية والرؤى واللغة في تنشيطها خبرة الشاعر وكشفها كوامن ذاته بما يخلق حضورا إبداعيا متجددا . ولاشك في أن ولادة أي نص تستدعي مولدات أو مرجعيات التأسيس لدى مبدعه ، فالنص انبثاق روحي بصورة لغوية ومحاولة كشف لمساحة مخبوءة كانت بانتظار إماطة اللثام عنها ، وهذا ما رصدناه في مجموعة الشاعر ياسين طه حافظ ( مخاطبات الدرويش البغدادي ) الصادرة عن دار المدى بـ ( 168 ) صفحة في 2014 م ، التي اكتنزت بمحمولات قابلة لفتح آفاق دلالية جديدة في نصوصها . وقد ارتكز التشكيل فيها على ( تذويت ) بعض الافكار لينطلق منها الشاعر إلى فضاءات أوسع . وإذا سلمنا ان التصوف ورمزيته ليس ارضا بكرا فقد تأطرت ثيمه في نصوص معظم التجارب الشعرية ، ولا سيما اذا كانت تجربة الشاعر في أوج اكتمالها ، وبعد أن أصبح الشاعر في رماد العمر ، وكذلك لم يغب التصوف عن وكد الشاعرات - وهذا له دواعيه - غير البعيدة عن مضان الباحثين والنقاد .
وتعد محاولة الشاعر ياسين طه حافظ من المحاولات المتفردة في استلهامه هذه الثيمة ، إذ جمع فيها طقوس التقديس الشرقي بكل تنوعاته ومظاهره ، وبين خوضه مناطق مأهولة بالإشارات والرموز التي تشف وتدلّ على اللحظة الحاضرة مرة ، وتتسرب إلى أبعاد من التاريخ في حقائقه وأساطيره مرة أخرى .
إن النفوذ إلى فضاءات ( مخاطبات الدرويش ) المتغايرة / المتنوعة ، يفضي إلى إمساك بؤرتها المركزية ( الطقوس الشرقية ) وتقصي ظلال التجربة الشعرية التي امتدت جغرافيتها لتشمل اغلب عادات الشرق وطقوسه الدينية ، فما اعتمل في ذهن المبدع من صور وما فجرته طاقته الإبداعية من لغة شّعت إيماءات ألهبت نصوصه بشفرات تجاوزت الداخل إلى مثول الخارج النصي ، عبر هيكلية تعبيرية نسجت حبائلها من بؤرة العرق ( العربي ) إلى الآخر الشرقي ، ومن ارتسام الملامح إلى اكتمال الصورة بتفاصيلها ، فكانت الأداة إلى ذلك الفكر المتوهج وحذر التناول محققا توازنا في عملية إبداعه بين الذات والانفتاح على العالم حتى شكلت تجربة الطقوس( الدرويشية ) ظاهرة طافية في بنى مدونات ياسين طه حافظ .
وتبدو من الشاعر نظرة إلى الوراء تتبدى فيها عتبات من الجدة والحداثة ، إذ تتكشف تحولات مناطقه الشعرية ، عبر نماذج الصوفي / الروحي والحسي ، وفي اتخاذنا مقولاته في مقدمة المجموعة ، موجها لاستنطاق تجربته الجديدة المتزاحمة الأفكار والمتشظية المرامي ، حيث تتجاذبها اطراف الشرق برؤاه ومعتقداته الدينية الطقوسية ، وهذا منبجس من تحول رؤيوي استنطق فيه موروثه الثقافي ورؤيويته الفكرية التي واشج فيها بين ( الخاص والعام ) حتى ترشحت من مرونة حركته قصائد مهندسة على وفق معمار فني تاريخي .
يلفتنا عنوان المجموعة إلى وجود خيط تناصي مع ( المواقف والمخاطبات ) للنفري / المتصوف العراقي ، لكن الشاعر قد أسقط ( المواقف ) واعتمد ( المخاطبات ) عنوانًا ، وهذا يؤكد الإطار الصوفي الجامع بينهما . كما ان افتتاح المجموعة بنص للحسن البصري مما يجمع وشائج الصوفية بينهما ، ولعل إسناد (الدروشة ) إلى ( البغدادي ) ونسبتها إليه ، يحمل مقصدية تتأطر في ذات الشاعر و تماهيها في عوالمها الروحية ، ولاسيما إذا عرفنا انه يخاطب نفسه بوصفه درويشا بغداديا ، من ذلك قوله :
ياسين ، يا درويش ، كم أضعت
من عمرك في التجوال
تبحث عن ذاك الذي تريد
حتى إذا وجدته ،
رأيت حالا غير تلك الحال . صـ 115
فيعكس للمتلقي صورة الدرويش المتيم في صورة من يهوى حتى اذا بلغ درجة التواصل الروحي والحضور القدسي اكتشف إن الأمر أكبر من أن يُصور أو يُجسد ، فيصفه بالجنون في :
ياسين ، يا مجنون ، يا فرهاد
ألا تخاف أنت
من انخساف القنطرة ؟ . صـ 19
وقد يكون استفهامه وجوديَّ الاشارة يشي بصورة عجزه عن تحقيق ما يريد الوصول إليه ، ولا بد من الإشارة إلى خلو المجموعة من عنوانات لقصائدها والاكتفاء بترقيمها .
انه يزج المتلقي في فضاءات تختلط فيها الميتافيزيقيا بالواقع ويشوب الوعي فيها الخيال ، كما تجسد ذلك بعض مفضياته و كأنه أحد ( الدراويش ) كما في :-
درجة درجة حتى لقاء الحق
مولاي في الغيبة والحضور
سلمك البلور
يوصلني للنور
.... درجة درجة أصل
... سوف أصل
لاح الضياء فجأة
هو الذي لأجله أتيت
لا حائط لا بيت
يفصلني
روحي بذاك الروح متصل . صـ 39
تصور القصيدة ما ينتاب ( الدرويش ) من حالات اللاشعور والتماهي حتى تبلغ به الغيبوبة والتلاشي في العالم العلوي ، انه تصوير لتجليات الذات وهي تمور في مشتبك من الوعي واللاوعي ، ومن الإدراك والحلول الروحي في الذات العليا ، يقول وهو يصف رقصة مولوية:
تكتمل الدورة ، هذي دورة أخرى
وهذه الدفوف الدفوف الدفوف
رؤوسهم مائلة إلى الكتف
ثيابهم منفوخة يهبُ منها حولها النسيم
.... يدورون
الدفوف الدفوف الدفوف . صـ 2
بهذه اللمحة البانورامية يُدخل المتلقي أجواء حلقات الذكر الصوفية وما يعتري المريدين في دورانهم من ذهول وفقدان يقود إلى لقيا المغيّب ، فتلمح من تصويراته تداخلا بين ثقافة العرف وتاريخ المعتقد ليشكل نصا محملا بمعطيات الذاكرة الإبداعية والجمعية ، إذ أنه قد واشج بين ملحمة الصوفي في حلقات الدروشة أو الذكر وبين رافده الديني ليضعنا أمام صورة مكتملة الأبعاد في تأطيرها بانورامية اللحظة الحدث .
ويدخل ( الدرويش ) في عوالم غيبية لا يدرك كنه حقيقتها غير من فيها ، فهو انقطاع عن المأمول وانشغال بوجود آخر لا تراه العين المبصرة إلا من خلال ما يُلمح على ( الدرويش ) من إمارات في قوله :-
أنا في النشوة الكبرى
اخوض الكون
لا ادري بما حولي من الناس . صـ 20
وترسم اللغة بإشاراتها ومرّمزاتها صومعة التعبد في تأطيرها هيام الذات في محبها ووجدها في معشوقها ، وهي لا تطلب سواه ، ولا رجاء لها من الكون غير لقياه :
أنا في مسار دائر
حكم المسيرة فيه شرّ
وأنا أدور لكي أرى
النور الذي من كل هذا الشرّ
ينقذني
أنا لا أريد سوى حبيب بعض ضوء
منه يبهجني
.. فليس مافي الكون يشغلني
أنا لا أرى غير الذي أرجوه . ص 77
وتشكل ثقافة الشاعر موّلداً خلاقا لصوره المتنوعة ، التي تجاوزت الصوفية الاسلامية ودخولها في تفاصيل الطقوس الشرقية الأخرى كالبوذية والزرادشتية وغيرها ، من ذلك وصفه بعض عادات ( زرادشت ) في ترانيمهم :
يا ربنا الحكيم
أبحث عن حب وقداسة
أبحث عن حياة
يا ربنا الحكيم . صـ 154
ويتخذ من التناص أداة لعكس طقوس بعض الشعوب وعاداتها في التعبير عن الانغماس الروحي فيمن يعبدون ، كما في :
أنا يا مولاي أتيت
يا أنت حبيبي
لا إشراق بغير نظافة
لا إشراق . صـ 163
إذ نجده يجوس كنه عباراتهم الدعائية وترانيمهم التعبدية التي تجلي إذعانهم وخضوعهم لمن يبجلون .
ويقول على لسان بوذي :
إن اتباع الطريق
كلهم منهمكون الآن في معنى الطريق
وأنا ضيعني الشيخ وما زلت مُريد
باحثا عما أريد . صـ 32
إذ تتخبط الرؤى وتضيع الخطوات للانتهاء إلى المعشوق ، ويبقى في غواية الوصول إلى حيث يريد.. نهضت لغة الشعرية طيعة في ترسيم المشتركات الثقافية في التعبد وطقوسه التي يجسدها مبدأ الحلول والتماهي في ذات المحبوب أو الزهد بالماديات والملموسات من أجل اللقاء الروحي .
استبطنت التجربة الصوفية عند ياسين طه حافظ شحناً عاطفيا ً عبّر عن قدرة الشاعر في اقتناص فكرته مستمداً من خزين ذاكرته الثقافية آليات اشتغالة للنفوذ إلى عوالم الروح المتماهية في ذات معبودها ، فشكل بوحه الشعري نصوصاً حملت تصويرات كانت بعيدة عن مجساتنا ، لكنها مثلت مناطق جوبه الشعري بصياغات جمالية لها من التأثير ما يدهش المتلقي ويستفز قابليته القرائية لزجه إياه في أجواء تلق جديدة وفاعلة تجعله طرفا مشاركا وحاضراً في إنتاج النص.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

مقالات ذات صلة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم
عام

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

دانييل دينيتترجمة: لطفية الدليميلم تكن الفلسفة متعاضدة مع العلم دوماً. في الأطروحة التالية ستنكشف لك الأسباب المسوّغة لضرورة تغيير هذا الأمر.يقدّمُ أدناه دانييل دينيت Daniel Dennett -الأستاذ الممارس في جامعة تافتس والمؤلّف الذي فاقت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram