هذا كتاب آخر لالبرتو مانغويل ، مكرس عن المكتبة مثلما تعامل معها هو ، ومنحها عناصر ومكونات خاصة به ، إنها من ابتكاراته العجيبة والفريدة . هي واضحة ومعلومة باسمها ، لكنه لم يكتف بذلك ، بل أخذها نحو فضاءات خاصة ، وكل فضاء فصل سردي غني بأفكاره وحكمه وحكا
هذا كتاب آخر لالبرتو مانغويل ، مكرس عن المكتبة مثلما تعامل معها هو ، ومنحها عناصر ومكونات خاصة به ، إنها من ابتكاراته العجيبة والفريدة . هي واضحة ومعلومة باسمها ، لكنه لم يكتف بذلك ، بل أخذها نحو فضاءات خاصة ، وكل فضاء فصل سردي غني بأفكاره وحكمه وحكاياته المعقولة واللامعقولة . وتضمن الكتاب خمسة عشر فصلاً تحدث فيها عن المكتبة بوصفها أسطورة / ترتيباً / مكاناً / سلطة / طيفاً / شكلاً / المكتبة عامل مصادفة / ورشة عمل / عقلاً / جزيرة / وسيلة بقاء / المكتبة والنسيان / خيالاً / هوية / وطناً / أنها فصول طويلة . لكل واحد منها روافده الجديدة وتشعباته التي لن تكون إلا لذلك الفصل ، الذي هو نوع من النسيج الملون / البهي ، القادر على تحفيز المتلقي وإثارة دهشته وإعجابه ، هذا ما فعله مانغويل ، صاحب ذاكرة فريدة ، عرفت كيف يلتقي مع المكتبة ، ودائماً ما يتم اللقاء ليلاً . هذا ما قاله مانغويل في " يوميات القراءة " وأشار له في كتابه الثاني " مكتبة في الليل " :الليل وقت القراءة فقط . والنهار وقت كتابة وربما لهذا التقسيم سبب أو أسباب مرتبطة بمكوناته هو ، وربما العلاقة مع الكتابة هي نوع من الدخول للكتاب والاطلاع عليه ، وهي نوع أيضا من التعرف والاكتشاف ، مثل من يجوس بقدميه لحظة دخوله مكاناً مظلماً ، واعتقد بأنه قدم لنا مساعدات لفحص بعض من الآراء المميزة له ، أو تلك التي دونها في يومياته واستعان بها وسجل اسم الذي قالها . لكني اعتقد بان من يعيد قول الكلام ويدونه ثانية يكون مبتكر له ، وحتى الثالث أو الرابع له حق حيازة المدفون واستحضاره مرة أخرى للحياة . وأعلن أكثر من مرة تمجيداً للذي يمسك بكتاب قديم جداً ويطلع عليه أو يعيد ذلك مرة أخرى ، ومثل هذا القارئ أو المتلقي يحوز دفعة واحدة طاقة كل الذين سبقوه قبلاً في الاطلاع على الكتاب . ومن حق الأخير أن يتعامل مع الكتاب بوصفه: القارئ ، مبتكراً ومكتشفا له وهو الذي أعطاه أشياء غير التي تحققت له من الذين كانوا قبلاً . هناك سبب آخر عن زمن الليل والحميمية معه . فقد أثار قبلاً [ حفظت الجدران السميكة للحجرة باردة وهادئة . وجعلتني اعادة اكتشاف أصدقاء قديمين ومنسيين غافلاً عن الوقت . فجأة رفعت عيناي لأرى الظلام قد حلّ في الخارج . وبأني صرفت يومي بملء بضعة رفوف نهمة فقط . أحيانا اعمل طوال الليل ، ثم أتخيل كل أنواع الترتيب الوهمية لكتبي ، لكني في ما بعد ، في ضوء النهار ، اطردها بحزن لأني أراها غير عملية ص 41] .
لا يعرف مانغويل وقتاً أكثر إثارة لسعادته من الليل ، للتواجد في مكتبته أو ترتيبها وتنظيمها . ويبدو لي بان عنونة كتابه " مكتبة في الليل " ليست استعارة فقط ، وإنما هي حقيقة لها علاقة وثيقة وصلة جوهرية بالقراءة وأوقاتها والكتابة أيضا .
ولان المكتبة لديه مقترنة بالليل فإننا يمكننا قراءة هذه الصداقة التاريخية للكشف عن الجانب الاستعاري منها . فالكتب لها ارتباط مركزي مع الذاكرة ، التي هي غير مرئية وليست واضحة المشهد ، لكنها تنفتح على دلالات عديدة . كذلك يعني الليل الزمن الأكثر إثارة للهدوء والاستقرار ، والبحث عن المتعة . ويرتبط الليل بالحلم / أحلام اليقظة والتي تراود الإنسان أثناء النوم . والمكتبة تعني الحلم الشخصي ، بالنسبة لمانغويل ولا وجود لحلم آخر غيره .
يفضي الليل نحو الانتشار والاتساع والتنوع ، ويتأتى هذا من المكتبة وما تحتويه من كميات كبيرة من الكتب والمراجع وهنا يتشكل بوضوح الاختلاف بين النهار والليل . الأول مقترن بمزاولة واحدة وهي الكتابة كما قال مانغويل ، ويرتبط الليل بالقراءة ، وهي ودائماً ما تكون متنوعة ، وقد كرر هذا أكثر من مرة . لان معاينة رفوف الكتب واستذكارها ، أو قراءة ما هو بحاجة إليه سريعاً ، هي المعبرة عن التنوع والعلاقة بينه وبين الليل واضحة . كما أجده ـ الليل ـ يعني الانتشار والسعي لحيازة كل شيء ـ الكتب ـ ولا يمكن تحقيق ذلك ، إلا عبر الحلم ، أو المعايشة اليومية . انه الحلم اليومي المألوف / المتكرر في كل الليالي .
توفر موضوع " المكتبة أسطورة " على كم هائل من المعلومات المكتبية اللامعقولة والغرائبية . وقد تأتت هذه اللامألوفية من تاريخية السرديات المرتبطة بالمكتبة وحكاياتها المبكرة في تاريخ الحضارة وعتبات لها علاقة بأهم الآلهة المعروفة لدينا وكذلك ضمن عديد الآلهة الإغريقية وهو الإله ديونيسيس وما يتمتع به من حضور متمركز مع الإله ابولو في الفلسفة اليونانية وتوصيفات نيتشة للنظام الثقافي والمعرفي الغربي المكون من نظامين هما ديونيسيس وابولو ، وتستمر هذه السردية المرتبطة بمكان كنيسة قديمة جداً وهي التي استبدلت " إله نشوة السكر بإله حول دمه الى خمر ص 13" وواضح هذا التبدل الثقافي البارز بالمقدس وعلاقته مع المكان ، حيث تم طرد ديونيسيس كلياً من مكانه وحلّ بديلاً له الرب يسوع ، وفي الدراسات الميثولوجية اشارات للعلاقة الثقافية بين الاثنين وكذلك مع باخوس .
وتتسع أسطورة المكتبة بالنسبة لمانغويل وتأخذ المتلقي نحو وقائع لم تكن في يوم من الأيام ضمن اهتماماته ، وكم بذل مانغويل من الجهود والوقت حتى يتوفر على هذه الحقائق الثقافية ، ذات الصلة الوثيقة مع تاريخ التدوين والثقافة.
يتضح لنا بان استهداف ذاكرة الشعوب ليست حديثة ، وإنما هي قديمة ، مهمة الحروب العدوانية تدمير البناء المادي وتطارد الثقافة ومصادر المعرفة وهذا نوع من الأساطير الباقية حية حتى الأبد ، لا تنساها الذاكرة لأنها تتجدد [ خلال مناقشات الكونغرس الأميركي حول شراء المكتبة الخاصة للرئيس الأميركي السابق توماس جفرسون ـ كي تحل محل الكتب التي أحرقتها القوات البريطانية في وقت مبكر من ذلك العام ـ 1814 ـ بعد احتلال مبنى الكابيتول في واشنطن ص 68 //
ويطلق مانغويل حكمته المستخلصة عبر تاريخه الطويل مع ليالي المكتبات : المكتبة بالضرورة مخلوق ناقص ، عمل بصدد النمو ، وكل رف فارغ هو بشير بكتب قادمة ص 75//