وصلْتُ فرنسا منتَصف ذات يومٍ و كانت بِجيْبي هذه المرّة بضعُ جنيْهات و هي بالتأكيد أكثر ممّا كنتُ أحملُه معي في رحلتي السابقة إلى فرنسا ، و مضيْتُ على الفور لأحد المطاعم القائمة قرب جُرفٍ صخريّ و طلبْتُ بعض الطعام مع النبيذ و سرعان ما جعلني النبيذ مُن
وصلْتُ فرنسا منتَصف ذات يومٍ و كانت بِجيْبي هذه المرّة بضعُ جنيْهات و هي بالتأكيد أكثر ممّا كنتُ أحملُه معي في رحلتي السابقة إلى فرنسا ، و مضيْتُ على الفور لأحد المطاعم القائمة قرب جُرفٍ صخريّ و طلبْتُ بعض الطعام مع النبيذ و سرعان ما جعلني النبيذ مُنتشياً و سعيداً . كان المكانُ يضجُّ بموسيقى إسبانيّة صاخبة تناولْتُ على وقْع أنغامها شريحةً كبيرةً من اللّحم الطريّ ( ستيك Steak ) و للمرّة الأولى منذ سنواتٍ خَلَت اختبرْتُ ذلك النوع الطاغي من الفرح و البهجة بداخلي و صرْتُ أرى نفسي مثل محطّة كهربائيّة عملاقة و بتُّ على قناعة تامة بأنّني اتّخذْتُ القرار المُناسب و الصّحيح بمُغادرة إنكلترا و شعرْتُ بأنّ كلّ الآلهة تقفُ إلى جانبي و أنّها أرسلت لي هذه الدفقة العظيمة من البهجة كإشارة خفيّة إلى وقوفِها معي ، و كنتُ آنذاك أجولُ بخيالي أينما أريدُ و كان في مقدوري الّلحاقُ بالتاريخ كما ألحقُ بسيّارةٍ للنقل العام .
وصلْتُ باريس بعد يوميْن من نزولي الأراضي الفرنسيّة و توجّهْتُ من فوري إلى غرفة كلود جيّوم في جادّة باين و عرفْتُ أنّه لم يكن يُقيمُ هناك ، و لحسْنِ الحظّ قيل للبوّاب أن يعطيني مفتاح الشقّة متى ما أردْتُ فانتقلْتُ إلى الغُرفة على الفور . كانت مشكلتي الكبرى آنذاك هي الحصولُ على عملٍ أكسبُ منه قوت يومي و بدا الأمرُ كما لو أنّني وجدْتُ الحلّ المناسب في ليلتي الباريسيّة الأولى : قرأتُ إعلاناً على الجدران حول مجلّة أميركيّة جديدة تعدُّ العدّة لإصدارها في باريس تدعى ( باريس ريفيو Paris Review ) و ذهبْتُ لمقابلة المسؤول عن المجلّة في شارع غارانسييه فوجدْته شابّاً أميركيّاً صارم المظهر و السلوك يدعى ( جورج بليمبتون ) و اقترح الرّجلُ عليّ أن أبيع قسائم الإشتراكات بالمجلّة على أن أحتفظ لنفسي بنسبةٍ من المبيعات و زوّدني الرّجل بأسماء الأميركان المُقيمين في باريس مع خارطة تفصيليّة للمدينة ، و بدت لي الفكرة رائعةً لأوّل وهلة : كانت قيمة الإشتراك الواحد ألفاً من الفرنكات الفرنسيّة ( أي ما يُكافئُ نحو الجنيه الإسترلينيّ الواحد آنذاك ) و كان الاتّفاقُ أن أحصل على أربعمئة فرنكٍ منها و هو ما يعني أنّ في قدرتي أن أحيا حياة معقولة لو بعتُ قسيمةً واحدة أو اثنتيْن في اليوم ، و عدْتُ إلى شقّتي وأنا مغمورٌ بالفرح و الابتهاج ، و لكنّي اكتشفْتُ في أوّل ساعاتٍ من بدء عملي أنّ الأمر سيكون أكثر صعوبةً ممّا كنتُ توقّعته : إذ كانت عناوين الأميركان المُعطاة لي بعيدةً عن بعضها و كان ينبغي لي صرفُ الكثير من النقود في رُكوب الحافلات أو المشي لمسافاتٍ منهكةٍ طويلة ، ثمّ أنّ القليل للغاية من الأمريكان بدا مهتمّاً بأمر مجلّة أدبيّة حديثة الإصدار . و بعد يوم واحدٍ من العمل و السير لما يقرُبُ من عشرين ميلاً في القيْظ الشديد كنتُ قد بعْتُ اشتراكاً واحداً فحسب و لكنّي صرفْتُ في المقابل ألف فرنك على رُكوب الحافلات و تناول المشروبات الباردة . و عندما كنتُ أعثرُ على رقم هاتفٍ لأحد هؤلاء كنتُ لا أتردّدُ في الاتّصال به و لكنّي أقلعْتُ عن هذا بعد أن صار واضحاً أمامي أنّ الاستجابة الوحيدةَ المُتوقّعة من قبل الزبون على الهاتف هيَ رفضُ طلب الاشتراك على الفور ، و أذكرُ أنّ أحد الأميركان طلب إليّ الاتّصال به على الهاتف في اليوم التالي عندما يكونُ في مكتبه ، و لكنّني بعد أن عرفْتُ بعنوان منزله وجدْته قريباً من شقّتي فمضيْتُ لأبيعه قسيمة الإشتراك في منزله عوض المكتب ، و عندما طرقْتُ الباب و جاءني حكيْتُ له عن أمر القسيمة فصاح غاضباً " استمع جيّداً ، أظنّني قلتُ لك تعالَ إلى مكتبي لا إلى منزلي ، و إذا كنتَ تودُّ أن تراني فيجبُ أن تفعل هذا بالطريقة الّتي أريدُها أنا لا أنت ، و الآن إذهب بعيداً من هنا !! " و صفقَ الباب بوجهي ، فما كان منّي إلا أن أدعو الآلهة بأن تُذيقه أكثر أشكال الموت عذاباً ، و مضيْتُ عائداً إلى شقّتي و أنا لا أنفكُّ أتساءل عن السّبب وراء كوْن الأميركان أكثر المخلوقاتِ وقاحةً و وضاعةً على الأرض و أكثرهم جاذبيّة و حميميّة في الوقت ذاته ؟ . بعد بضعة أيّام من عملي أدركْتُ السّبيل إلى بعض الوسائل الكفيلة بتحسين مدخولي الماليّ المتواضع عن طريق بيْع نسخٍ مفردة من باريس ريفيو لأنّ الكثيرين كانوا يتوقون لقراءة عدد منفرد قبل أن ينفقوا المال في اشتراك سنويّ بالإضافة إلى أنّ قراءة عدد مفردٍ ستتيحُ أمامهم فرصة طيّبة للاطّلاع على المجلّة و اتّخاذ قرارٍ مناسبٍ بِشَأن الاشتراك فيها ، و معَ أنّ سلوكي هذا كان غير مشروعٍ لكن كان يتوجّبُ عليّ أن أعيش و بخاصّة بعد أن عانيّتُ الكثير من جورج بليمبتون فيما يخصّ الأرباح الّتي اتّفقْنا عليْها .
بعد أسبوعيْن من وصولي باريس كتبت لي لورا تُخبرُني أنّ بيل هوبكينز قد يُسافرُ إلى باريس للبحث عن مطبعةٍ فرنسيّة تقبلُ طبْع مطبوعه ( ناقد الأحد ) ، و اغتنمْتُ هذه الفرصة للبقاء في غرفتي و انتظار صديقي و قد أسعَدَتْني العودةُ إلى بعضٍ من طقوسي القديمة في قراءة الشّعر و مسرحيّات شو و بخاصّة أنّني كنتُ أكنّ كراهيّة مقيتة لوظيفتي البائسة . جاء بيل بصحبة صديقٍ لندنيّ لنا يدعى ( فيليب ) و انتعشْتُ أيّما انتعاشٍ لرؤية بيل ثانية بعد أن وضعتْني باريس في حالةٍ عقليّة سيّئة و انهزاميّة ، و كان بيل حاسماً و صُلباً مثلما عهدْتُهُ من قبلُ و اتّفقْنا أن نعمل في بيْع قسائم الاشتراكات معاً حتّى نحصل على المال الكافي لعوْدتِنا ثانيةً إلى إنكلترا ، و لكنّ بيل كان مُفرِطاً في التدخين كما كنتُ أنا الآخرُ ألتهمُ كمّيات كبيرة من الشوكولاته لذا لم يكن في وسعنا ادّخار أيّة نقود ، و مع ذلك لم نشعرْ بالجوع يوماً ما معَ أنّنا كنّا بالكاد نُقيتُ أنفسَنا يوماً بيوْم . تناوبْنا أنا و بيل على النوم في الفراش الوحيد الّذي احتوتْهُ الشقّة ، و كان بيل من عُشّاق العمل في الليل إذ كان يسهرُ للعمل على نسخ روايته ( زمن الشموليّة Time of Totality ) على الآلة الكاتبة حتّى الثالثة بعد منتصف الليل ثمّ كان يوقظُني لنتمشّى في الشوارع الخالية ، و حصل في الأيّام الّلاحقة أن تحدّثنا حوْل مزاجينا و منهجيْنا في الكتابة : كان يُسعدُني النّظر إلى بيل باعتباره الكاتِبَ العبقريّ الوحيد الّذي قابلْتهُ في حياتي و لو أنّني كنتُ أنزعِجُ للغاية لكونهِ لم يبادلْني ذات النظرة الّتي كنتُ أنظرُها إليْه ، و حرصْتُ على متابعة الأخطاء الّتي تشوبُ كتابته وَالّتي كانت تفتقدُ الدقّة والانضباط اللازميْن لأيّة كتابةٍ جادّة - كما أرى - و وجدْتُ مأخذاً كبيراً عليه في هدر الوقت الثّمين في المناقشات و الحوارات بدلاً من التّركيز على خلق أعمالٍ عظيمة ، و مِن جانبه أسرني بيل بأنّه يراني محْض شخصٍ أنانيّ مُنطوٍ على ذاته و أنّ هذا الانطواء يشي بخوفي من تحطّم أسطورتي الشخصيّة بشأنِ تفوّقي متى ما اقتربْتُ من الناس أكثر من ذي قبلُ ، و مضتْ نقاشاتُنا على هذا المنوال لعدّة أيّام و ارتضيْنا في نهاية المطاف القبولَ بعدالة النّقد الّذي وجّههُ كلٌّ منّا للآخر كما قبلْنا بتكوين جبهةٍ مشتركة بيننا و هذا ما دفع بنا إلى آفاق جديدة من التفاؤل . و مضيْنا نحتفلُ في نهاية كلّ يوم طويلٍ من الكدح في بيع قسائم الاشتراكات بتناول بضعة أقداح من نبيذ رخيص على حساب مجلّة باريس ريفيو . و لكن برغم روح التفاؤل هذه لم تنلْ مجلّة ( ناقد الأحد ) شيئاً من النّجاح لذا عقدْنا العزم - بعد إنفاق الكثير من الوقت على العمل في روايتيْنا و إعطاء بعض المحاضرات في اللغة الإنكليزيّة و شرب الكثير من النبيذ الرخيص - على الاستنجاد بالقنصليّة البريطانيّة لكي تسهّل لنا أمر عودتنا إلى بريطانيا .
عدْتُ ثانية إلى إنكلترا في أواخر شهر تشرين الثاني من ذات العام بعد أن أمضيْتُ نحو الشهريْن في باريس ، و لم تكن لديّ أيّة رغبةٍ في الذهاب إلى لندن و حتّى لو أردْتُ الذّهاب لم يكن لديّ ما يكفي من المال لاستئجار غرفةٍ متواضعةٍ هناك فمكثْتُ لبضعة أيّامٍ مع شابّ هنغاريّ كنتُ عرفته من قبلُ و يُدعى ( ألفريد رينولدز ) وَكان انتقل للسكن حديثاً في منطقة دوليس هيل Dollis Hill ، و كان رينولدز يقودُ مجموعةٍ سياسيّة ذات نزعة إنسانيّةٍ تدعى الجسر Bridge و يبشّرُ مرة في الاسبوع بأخلاقيّاتٍ تقومُ على التسامح المُطلق بين مجموعةٍ من الشّباب . و سنحتْ لي فرصةٌ لحضور أحد الاجتماعات و رأيْتُ أنّ التّسامح الّذي يدعو إليه رينولدز لم يكن من النّوع الذي يلقى هوىً في نفسي أو يمكنُ أن أتعلّمَ منه شيئاً جدّيّاً و رأيْتُ أنّ من الأفضل لي العودةُ إلى ليستر. و بعد مُراجعَتي لمركز استعلامات العمل في ليستر حصلْتُ على عملٍ في محال لويس ، و هي أكبرُ محال البيع للمستهلكين وسط المدينة و كانوا بالفعل يحتاجون بائعاً مؤقّتاً خلال أعياد الميلاد فتمّ تنسيبي إلى قسم بيع السجّاد .
عدْتُ إلى ليستر يحدوني أملٌ غامضٌ بأنّ القدر ربّما سيغيّرُ من سياسته معي : فقد بدا لي في تلك المرحلة من حياتي أنّني أمضيْتُ جلّ أوقاتي و أنا أعيشُ مثل جوّالٍ متسكّع يتنقّلُ بين وظائف مقزّزة أو يكتفي بالتطواف دون غايةٍ محدّدة و رأيْتُ نفسي آنذاك مجرّد مُتردّد قلقٍ بوهيميّ . و لم يكن هذا يحصلُ لي لأنّني كنتُ بالفعلِ أمتلكُ نزوعاً مزاجيّاً بوهيميّاً بل كان كلّ ما ابتغيْتُهُ آنذاك هو غرفةٌ صغيرةٌ مليئةٌ بشتّى صُنوفِ الكتب و ما يكفيني من المال لأعتاش على الطماطم المُعلّبة و البيض المقليّ و لكنّ الحقيقة المُرّة أنّني كنتُ و لسنواتٍ طوالٍ أعيشُ نمطاً واحداً من الحياة يتكرّرُ دونما نهايةٍ حينما أجدُ نفسي وسط موقفٍ تتعاظمُ وطأتُهُ عليّ يوماً بعد آخر ما يضطرُّني إلى هجرانهِ و سرعان ما أجِدُ نفسي وسْط موقف آخر لا يلبثُ أن يستحيل وضعاً مؤلماً و مُضجِراً لايقلُّ وطأةً عمّا سبقه . كانت المشكلةُ كما أحسبُ هي انغلاقي المفرط على نفسي : فالحياةُ في المجتمع الحديث تعني حتماً الاختلاط معَ الآخرين ، و الوظائفُ القليلة الّتي استمتعْتُ بها كانت الوظائف الّتي أتيحَ لي فيها العمل بمُفردي مثل عملي في مصنع فريزر في نورث فينكلي حيثُ كنتُ أعملُ وحيداً في غرفةٍ لرشّ السوائل تبعدُ نصف ميلٍ عن المقرّ الرئيسيّ و لم يكن بصري ليقع على أحدٍ طول يوم العمل ، و هكذا بدا لي أنّ القدر قد رسم لي طريقي بحيثُ لا يُتاحُ لي إلّا العمل المستمرّ لحساب آخرين ثمّ تركُ الوظيفة المُتاحة أمامي و الالتحاقُ بأخرى لا تقلُّ سوءا عن الأخرى كلّ أسبوعيْن.