فيلم المخرج البولندي "باول باوليكوسكي" انتاج بولندي 2012 "ايدا" الذي حاز على جائزة الاوسكار لافضل فيلم اجنبي في دورة 78 الاخيرة . استحق الجائزة بامتياز ، ليس لانه استطاع أن يوظف تقنية " الاسود و الابيض " لارتباطها الصميمي بالحدث الرئيس " الحرب
فيلم المخرج البولندي "باول باوليكوسكي" انتاج بولندي 2012 "ايدا" الذي حاز على جائزة الاوسكار لافضل فيلم اجنبي في دورة 78 الاخيرة . استحق الجائزة بامتياز ، ليس لانه استطاع أن يوظف تقنية " الاسود و الابيض " لارتباطها الصميمي بالحدث الرئيس " الحرب " وتبعاتها فحسب ، بل لانه وظف الكثير من المؤثرات التي دخلت وسط كادر الفيلم كالشتاء والثلج والجدران التي لازالت اثار الدخان مرسومة عليها . وقيل فيما مضى ان افضل الكتابات عن الحرب تلك التي تلي الحرب ، فقد قدم لنا المخرج اغنية رومانسية ثيمتها الاولى الحرب التي تهيمن على كل اجواء الفيلم رغم مضي فترة طويلة على انتهائها . فقد كانت احداث الفيلم تدور في اعوام ستينات القرن الماضي في بولندا .. اما تبعاتها فموجودة امامنا بشكلها الصادم .. فالخراب لم يزل ، راسخا ولم تستطع السنوات ان تمحو اثاره عن الجدران التي بدت وسط الثلج المهيمن على اجواء شتاء بولندا ، فبدت متصدعة .. والشوارع مخربة .. والابطال يسيرون كأنهم يجترون ويلات تلك السنوات التي دفع كل فرد فيها ثمنا .. اولهم " ايدا " التي ادت دورها الممثلة الشابة " شبيوخوفيسكا " حيث تظهر كراهبة في دير وهم يديمون تمثالا للسيد المسيح يتم نصبه وسط الثلوج امام الدير .. وبلقطات مركزة على قدسية اجواء الدير تنتهي دائما بالنظرة المركزة من عيني التمثال .. وتخبرها الراهبة الكبيرة ، على ضرورة ان تذهب لرؤية خالتها "لانها الوحيدة المتبقية لها من عائلتها " . تبدأ الرحلة بإعداد الحقيبة .. لتجد نفسها لاول مرة خارج الدير .. وهي تركب الباص والمترو وكان تركيز الكاميرا على وجه الممثلة البريء وهي مصابة بدهشة رؤيتها المدينة اول مرة .. لتصعد الى بيت الخالة " فندا " التي نفهم انها قاضية وتعيش حياة ماجنة وسط شقة في بولندا . ادت دورها ببراعة تستحق عليها ان تنال جائزة افضل ممثلة "اجاتا كوليشا" . منذ الكلمات الاولى للخالة وهي تنظر الى لباس ابنة اختها الكهنوتي تخبرها بانها يهودية ، واسمها ليس " انا " بل هو " ايدا " وهي من عائلة يهودية وليست عائلة مسيحية ، وتقدم لها صورتها مع امها .. يمضيان بعض الوقت .. ببرود وعدم تواصل ، تودعها وتظهر الخالة في مشهد آخر وهي تؤدي عملها كقاضية .. نراها تسهم وتظهر علامات تأنيب الضمير عبر لقطة كلوز كبيرة .. سرعان ماتترك قاعة المحكمة وتهرع الى محطة الباص .. لتأخذها الى الشقة وتنصاع الى رغبة ابنة اختها في البحث عن تاريخ العائلة او اي شيء او علامة تدلهم على مكان قبورهم .. وتفهمها الخالة بان لاقبور لديهم مثل الناس .. فقد تم قتلهم ودفنهم بقبر جماعي .. وتبدأ ثيمة مهمة اكد عليها الفيلم وهو الدين والرب عبر اسئلة فلسفية .. وحوار هائل ساهمت الكاميرا المتنقلة بين الوجهين المنفعلين .. الخالة المتمردة التي لاتؤمن بالرب وهي الراهبة التي كانت مسيحية وتعرف انها يهودية .. لننتقل عبر رحلة البحث عن المقبرة . وفي الطريق تطلب من خالتها ان توقف سيارتها لتهبط منها لانها رأت معلما يشير الى قبر احد القديسين فلاتستطيع الا ان تصلي تحت انظار الخالة التي تفكر في ان تبدأ عملية البحث من البيت الذي كانت تسكنه العائلة . ولكونها قاضية تستدرج بذكاء الابن الاكبر للعائلة وتهدده انها تستطيع وبحكم منصبها كقاضية ان تشرد العائلة لانهم يقيمون في ممتلكات مغصوبة . تدخل " ايدا " زريبة قديمة تجد نفسها مجبرة للوقوف امام الشباك القديم ، تتذكر شيئا من طفولتها لتقف خلفها خالتها في مشهد رائع وحزين يشير الى المكان الذي كانت تقف فيه اختها وثمة زجاجة فيها رسوم ربما كانت تشير الى البقية الباقية من اختها التي قتلها من اغتصب البيت. وفي الطريق الى القرية يقلان شابا يحمل آلة موسيقية ، توصلانه الى القرية وامام الفندق يدعوهما الى حضور الحفل الموسيقي الذي تقيمه فرقته الموسيقية .. وتبدا هنا براعة المخرج في رسم لوحاته التشكيلية الهائلة : منظر " ايدا " وهي تنتظر خالتها في اسفل المستشفى الذي يرقد فيه اب العائلة التي اغتصبت المنزل . حيث تظهر خلفها مدينة محاطة باثار الحرب التي دمرتها ودمرت الانسان فيها . يعترف الاب انه اكرم العائلة واخفاهم في الغابة، تشير اليه انه يجب عليه ان يدلهم على القبور وماهو مصيرهم وكيف قتلوا، وازاء صمت الاب ، تخبره انها ستعود مرة اخرى . في المساء يحضران الحفلة الموسيقية ، وبعد ان يستمتعان بعزف الشاب الذي اقلاه في الطريق وفرقته وهي تعزف معزوفة مشهورة بعنوان "نعيمة" لكونريته ، حسب اجابة السؤال الذي سألته الخالة للشاب عن اسم المقطوعة التي عزفها ، ولوحات اخرى ترافق المعزوفة وهي دخول الراهبة الى عالم الجمال والحياة والحزن الذي يغلف محياها .. حياتها التي قضتها وهي "بتول" لم تكن لها اية تجربة جنسية او عاطفية من قبل . يقترب منها الشاب لكنها تقابله ببرود ، وبعد مغادرته تجد نفسها امام الابن الاكبر للعائلة التي تسكن البيت ليعقد معها اتفاقا على ان يدلهم على القبر مقابل ان يتركوا اباه والعائلة بسلام . توافق ايدا لتبدأ رحلة الحزن الكبيرة وانفلات الامور بالنسبة للخالة بعد ان تسأله عمن دفنهم ويعترف بانه قتلهم . تسأله هل تألم ، هنا نفهم لماذا هي حزينة وتعيش حياتها بعبثية تشبه عبثية الموت الذي اخذ منها ابنها ، وسؤالها عمن تألم نفهم انها تقصده " ابنها " الذي خبأته لدى اختها فيما ذهبت هي تقاتل في الجبهة. وفي الغابة كان الانهيار ورائحة الموت تهيمنان بقوة على الغابة ووجوه الممثلين مصحوبة بالموسيقى المختلطة مع اصوات الغابة المشروخة بصوت الفأس وهي تحفر وكذلك وهي تزيح التراب واصوات الطيور وفيما التراب يتصاعد والحفرة تتعمق ، يجلس امامهم ليعترف انه من قتلهم وتسأله ايدا لماذا لم اكن معهم . قال لها وهو يغص بعبرات الندم "كنت صغيرة وخبأتك في بيت عائلة ولكنه لم يستطع ان يخفي الولد الذي هو ابن القاضية لانه كان مختونا " . تمسك بجمجمة الولد وتغطيها بشالها ، الكاميرا بلقطة كلوز تصور انفعالاتهما بدورة بين وجه ايدا والخالة المنهارة والرجل الذي بقي في الحفرة ، تتسلمان الهياكل العظمية وتضعانها في صندوق السيارة وتقرران دفن بقايا العائلة في مقبرة قديمة . هنا تظهر براعة المخرج في استخدامه تقنية الاسود والابيض لتأكيد الحقيقة المصاحبة للموت ، الموت المحمول في صندوق ، والموت الذي كانت اثاره واضحة على وجه الممثلة البارعة " كوليشا " وهي تدخن وتتناول الخمرة من فم الزجاجة فيما هي تقود سيارتها وسط طرق مرسومة بعناية سينمائية واضحة . ويبدو ان هذه العوامل كلها مجتمعة هي ما جعلت الفيلم ينال جائزة افضل فيلم اجنبي في الاوسكار. وتنتهي بحفرهما قبرا جماعيا تضعان فيه الهياكل العظمية وجمجة ابنها الصغير وهي ملفوفة بشالها . وباصرار تعود الفتاة الى الدير وتبقى الخالة تعيد الاسطوانات وتشرب وفي مشهد هائل تجد النافذة مفتوحة وتلقي بنفسها منها لتنتحر في مشهد مباغت ولكنه يمثل التعبير الحقيقي عما يجب ان نفعله ونحن ندفن اخر شيء يربطنا في العالم .. وتعود الفتاة الى خالتها للمشاركة في مراسم دفن خالتها القاضية التي تقيم لها الحكومة احتفالا رسميا تشارك فيه اكبر الشخصيات ويتم تأبينها ..على انها المناضلة والرفيقة التي شاركت في القتال ضد الالمان والنازية .. تجد ايدا نفسها في الشقة وحيدة وتقرر ان تكسر كل المحاذير التي رسمها الديروالحياة المغلقة التي عاشتها . فتبدأ بارتداء ملابس خالتها وتدخن من سكائرها وتشرب الى حد الثمالة وتدعو الشاب الموسيقي الذي سبق وان رفضت ان يقترب منها لتنام معه وهي تكسر " البتولية " لكننا نجدها في اليوم التالي وهي ترتدي ملابس الراهبة وتحمل حقيبتها وفي طريقها الى الدير وهي تعلن انحيازها الى عالم الرهبنة باصرار . الموسيقى التي صاحبت الفيلم كانت مكملا لتقنية الابيض والاسود رغم ان المخرج استخدم كاميرا محمولة في اغلب مشاهد الفيلم ، لكن الفيلم قدم لنا المشاهد المتقنة والمنفذة بلغة سينمائية مكتنزة بالسرد الصوري المتتابع مشهدا يكمل الاخر.