TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > مريم تركي: فنانة كبيرة بعشرين ربيعاً

مريم تركي: فنانة كبيرة بعشرين ربيعاً

نشر في: 6 مارس, 2015: 07:48 ص

 حتى بعد ان تستغرق في  تاريخ الفن ، وتمعن النظر جيدا في الاف الاعمال الفنية ، وتقترب من تفهم الدوافع النفسية والظروف البيئية والثقافية  للفنان ،  سيبقى سؤال الفن معلقاً في سماء المقولات الأدبية ، وغالبا ما تأتي الإجابة من المضامين

 حتى بعد ان تستغرق في  تاريخ الفن ، وتمعن النظر جيدا في الاف الاعمال الفنية ، وتقترب من تفهم الدوافع النفسية والظروف البيئية والثقافية  للفنان ،  سيبقى سؤال الفن معلقاً في سماء المقولات الأدبية ، وغالبا ما تأتي الإجابة من المضامين ، وليست من الكيفية التي ظهرت عليها هذه المضامين.

- لماذا هذا الفنان اكثر قليلا من كونه مجرد رسام ؟ 
الجوهري في الفن لا يتطور تدريجياً ( المهارات والأفكار هي التي تتطور ) ، الجوهري في الفن يحدث ، اي يصبح حدثا ، يصبح حضورا ماديا ، انه موجود ، وليس بالضرورة ان يكون مفهوما ومبررا .
- هذه الفنانة الشابة ، اكثر من كونها مجرد رسامة ، إنها من النوع القادر على تشويشنا ، اربكانا ، على مفاجأة خمول التلقي لدينا . هي لا تدعنا نكرر أنفسنا . 
اعمال الفنانة مريم تركي ، العراقية التي تعيش في نيويورك ، وترسم (أشياء ) عن بيتهم القديم في العراق ، اعمالا زيتية على الخشب و الكانفاس ، ممارسات تعبيرية تجعل الجمال حتميا ، وحدثا يستحق التامل وطرح السؤال مجددا عن ماهية الفن . اذ لا يمكنك ان تمر الى جانب أعمالها وتمضي مسترخيا ، لا يمكنك الاكتفاء بابتسامة إعجاب بلهاء ثم ينتهي كل شيء . 
لم تخلق مريم لممارسة الرسم لانها فقط تجيد الرسم ، لقد ولدت ومعها تلك التوهجات العميقة التي استقرت في مراكز الحلم والتخييل والعاطفة . تلك التوهجات التي احتكرتها الطبيعة للميزين المبهرين الذين يوسعون مجال العيش في هذا العالم على نحو اكثر مقبولية .
لا كبير فرق - عندي في الأقل - بين ما تتيحه مريم من كثافة جمالية ، وتلك التي يتيحها كبار المصورين الذين اعود لأعمالهم كلما كنت بحاجة الى مساعدة الفن . 
مريم تركي ، من مستقر حياتها الجديدة ، حيث إيقاع العالم يتسارع في كل لحظة ، هناك في نيويورك ، تبسط روحها على سرير الأحلام البعيدة ، تستدعي البيت العتيق ، رائحته ، زواياه ، فضائه المفتوح ، مفرداته المبعثرة في محيطه ، تستدعي كل ذلك في لوحتها . 
هي تستدعي تلك اللحظات المشوشة ، لتأتي في ذاكرتها على هيئة ألوان مستقرة وخطوط أليفة . تجلس وترسم وهذا هو تقريبا كل شيء في تجربة الفتاة التي تقف على أبواب العشرين ربيعا . 
هي مازالت تحمل الدهشة الاولى لطفولتها : كيف ان دجاجة في الدار كانت تتألم عند الذبح ، بينما دجاجة اخرى تعيش معها في نفس القن ما زالت تلهو دون اكتراث ؟ تندهش مريم ، وتستمر معها الدهشة لتأتي ( و بعد كل هذه السنوات ) لتقترح الوانها ، ليس من بيئة البيت القديم ، وليس من بيئة المكان الجديد . تاتي بألوانها من ( باليتة ) التذكر ، من ذلك الحضور الغرائبي في زمن ميت ، انها لا تستعيد الحدث ، هي تلون ما تبقى من النسيان .
بألوانها التي يغيب فيها الاحمر الصريح احيانا ، الذي يفترض ان يكون هنا كناية عن الالم ، او الذعر ، بالنسبة لطفلة صغيرة موضوعها الدجاجات الأليفة ودورة وجودها في البيت ، التي تبدأ في حديقة الدار وتنتهي في المطبخ ، (يظهر الاحمر سيدا مطلقا في عمل او عملين ، او عنصرا حركيا في الهامش في اعمال اخرى ) ، يتلاشى الأخضر في تدرجات الحزن الطفولي نحو الأصفر الباهت ، ويظهر الاورنج مباغتا ، بينما يتوارى الازرق في الخلف ، او يتقدم بهدوء نحو الأمام ، ليمارس دور خلفية اللوحة تارة ، وعنصرها الحركي تارة اخرى ، في شبكة تداخل لوني محسوبة بدقة كجزء من مهارة خفية ، لا تفصح عن اي رغبة قصدية في هندسة الفضاء ، وإنما تكتفي بالتعبير العاطفي عن توازن المشهد لونيا وحركياً . كان سيزان يقول : العمل الفني الذي لا يبدأ من العاطفة ليس عملا فنيا . 
ترسم مريم ، حياة متوقفة ، حياة تدور في مكانها ، كانت تعيش داخلها بين جدران زمن بعيد ، تلك النهارات التي تكلّس فيها الوقت ، حيث العربات وهياكل السيارات والجدران التي لا يمر عليها الهواء . كأنها مقاطع حجرية من الوقت ، لكن مريم تلونها وتجعلها مرة اخرى موجودة . 
تنفتح اعمال مريم على حدود دلالية ، بقدر الدلالات التي اصبح اسم بلدها ينطوي عليها ، ويختزنها في صورته ، التي تجمع النقيض مع النقيض . و من اجل حماية اللوحة من ذكرى البلاد ، يجب التوقف داخل حدود هذه اللوحة ، يجب ممارسة نوع من الصمت بإزاء هذه المشاهد ، التي علينا ايضا ومن جانبنا ان نفتح لها باب الذكرى الخاصة بنا . 
لماذا مريم مختلفة ، لماذا هذا الفقر القصدي ( المموه ) في عائلتها اللونية ، وهذه الصلابة الأليفة في اشكالها ؟
ببساطة ، لانها فنانة موهوبة وأصيلة ، تمارس الرسم بداية بعيدا عن اغراضه الخارجية ، بعيدا عن مباركتنا واتفاقنا معها ، هي تستنطق الصور العالقة في وجدانها ، تلك التي كانت في يوم ما ، قد تسببت لها في الحيرة والإرباك ، يوم عاشت سنواتها الاولى في بيت اصبح الان بعيدا وراء المحيطات . 
كانت هناك ، تراقب الالم المخنوق لدجاجات البيت الأليفة ومرحها في مشهد متداخل واحد ، ظل يعمل عمله في ذاكرتها وربما في أحلامها ، وصادف ان يتشكل على سطح اللوحة دفعة واحدة .
بقي ان أقول : ان مجموعة تخطيطات بالرصاص أبدعتها مريم تركي ، هي الوجه الاحترافي في مشغلها ، هي الممارسة التي عليها ان تؤكد لنا من خلالها ، ان ما يجري في هذا المشغل ، هو جهد جاد ايضا ، واحترافي بلا شكوك ، هي هنا ليست فقط الطفلة التي تتذكر ، هي هنا الفنانة التي تستطيع .
في مجموعة تخطيطاتها التي اطلعت عليها ، هناك يد تدربت بصبر و بثقة ، وهناك عالم يتأسس ، هناك رغبة في تحقق الشرط ، ليس كل تخطيط هو ممارسة أولية للوحة ، بل هو في واقع الحال ، لوحة منجزة ، تامة ، متحققة بقوة ، تخطيطات تدل على مهارة وثقة وانشراح عاطفي . هكذا دفعة واحدة ، يكون المشروع قد أعلن عن نفسه ، عن حضوره .
في تخطيطاتها هناك وعد صريح بأنها مشت الخطوات التي يستدعيها إنجاز فني مفتوح على المستقبل بقوة . 
مريم تركي ، فنانة ترسم على طريقة أولئك الذين خصتهم الطبيعة بالاختلاف ، بالعمق والطاقة التعبيرية المتفردة . ليست من مصلحة الفن إحالتها الى مرجعيات سابقة ، صحيح انها قد تذكرنا بمرحعيات عالمية ، ولكنها تشترك معها في تمثل عالم الحلم والذكرى المشوشة عن الطفولة ، وتختلف في الأداء ، هي تؤدي أداءها الشخصي تماماً . 
ليس بعيدا ذلك اليوم ، الذي ستجد فيه مريم مكانها في الساحة الفنية كظاهرة شابة تؤدي فنا عميقا وأصيلا ومغايرا.
مريم تركي دم جديد في أوردة الرسم العراقي ، هي من جيل يتشكل بعيدا عن البلاد ، جيل احلامه كوابيس مختلفة تتعلق بموت الدجاجات وذكرى الالم ، في بلاد كأنها مصنوعة من كانفاس الالم والحزن الذي يشبه الوانها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram