كنت أتابع بشغف ممزوج بالقلق على القناة الرابعة في التلفزيون الهولندي مقابلة نادرة مع واحد من اشهر مزوري اللوحات الفنية في عصرنا الحديث. كان يبدو متفانياً في عمله الى أبعد الحدود، حتى تظن أنه يمارس عملاً طبيعياً بعيداً عن الشبهات أو سرقة جهود الآخرين وأفكارهم وتقنياتهم وفوق ذلك شهرتهم التي تجلب له أموالاً بطريقة غير مشروعة. هكذا كنت أراقب مزور اللوحات الهولندي خرتيان يانسن وهو يتحدث عن تجربة السجن والمال الذي جناه واللوحات التي قام بتزويرها وبيعها بأثمان خيالية. هذا المزور الذي لم يشك أحد قط في أعماله التي يرسمها في مزرعة منعزلة وبيت قديم، أعماله التي دخلت مزادات عالمية مرموقة مثل كريستي وسوثبي وغيرها، ورست عليها المزادات بأسعار لا تخطر على بال أحد باعتبارها أعمالا لبيكاسو وكارل آبل وشاغال وغيرهم الكثير من العمالقة.
كان يانسن في بداياته صاحب غاليري في أمستردام، وكان يحلم بعرض أعمال مهمة لفنانين مشاهير في هذا الغاليري، لكنه لم يستطع التوصل الى أعمال فنية لأسماء مرموقة كي يعرضها عنده، لهذا اهتدى بعد تفكير طويل الى أن يرسم بنفسه أعمالاً لأحد الفنانين الكبار. وهكذا كانت البداية مع كارل آبل مؤسس جماعة كوبرا الفنية. وقتها لم يشك أحد في العمل وتم تسويقه بسهولة، حتى أن البرنامج عرض صوراً لكارل آبل وهو يقف قرب هذا العمل وغيره ليانسن والمعلقة في أحد المعارض فخوراً وهو لا يدري بأن الأعمال مزيفة وليس هو من رسمها ! ويقول يانسن في هذه الصدد ضاحكاً بخبث : "لقد عرضت لوحة على آبل نفسه، كنت قد رسمتها بأسلوبه وسألته أن كانت أصلية أم لا فأجابني بأنها أصلية مئة في المئة وأتذكر الوقت الذي رسمته فيها" . تكمن خطورة أعمال يانسن المزيفة كونها ليست نسخا طبق الأصل من أعمال سابقة، بل هو يقوم برسم لوحات جديدة بأسلوب الفنان الذي يختاره، يرسمها على قماش يعود الى نفس الفترة الزمنية ويعالجها معالجات توحي بالقدم ومرور الزمن حتى أنه ظهر في شريط مصور كيف يمسك الكيس الذي يتجمع فيه التراب والغبار والأوساخ في مكنسته الكهربائية ويفرغه على لوحة لـ "بيكاسو" كان قد انتهى من رسمها ووضعها على الطاولة، ثم أخذ يحرك هذه الأتربة بحركة تشبه حركة الغربال كي تتداخل مع الألوان وتوحي بالقدم .
في بدايته ، جمع يانسن مبلغاً قدره خمسة ملايين ونصف المليون دولار من بيع اللوحات، فانتقل من هولندا الى فرنسا مع صديقته الرسامة ليستقر هناك في بيت ريفي أشبه بمزرعة، وكان هذا البيت يحتوي على مرسماً سريّاً. بعدها بسنوات ألقت الشرطة الفرنسية القبض عليه حين داهمت بيته لتجد في مرسمه الريفي 1600 لوحة كان قد نفذها لفنانين كبار منهم هنري ماتيس وراؤول دوفي وخوان ميرو وأسجر جورن وطبعاً بيكاسو. وهنا تذكر صديقته الحدث وتقول " كنت أرسم وسمعت أصوات سيارات في الخارج، وحين نظرت من النافذة ارتعبت وأنا أشاهد ثماني سيارات شرطة تحيط بالمنزل".
لقد اكتشف أمر يانسن ليس من خلال اللوحات التي زيفها بل من أحد الأختام التي وضعها خلف إحدى اللوحات القديمة وقد أخطأ في أحد الحروف، لأن احدى الكلمات الموجودة في الختم كانت تكتب بطريقة أخرى في القرن التاسع عشر. وهكذا أسدل الستار على واحد من أشهر وأمهر مزوري اللوحات الفنية في العالم، حيث يقضي وقته الآن في مرسمه يرسم لوحات تجريدية باللونين الأحمر والأسود ويعيش من خلالها بشكل جيد ولا أحد يعرف أن كان يحن الى أيامه القديمة أم لا !
لقد حكم عليه وقتها بالسجن ستة اشهر مع غرامة مالية كبيرة. وحين سأله مقدم البرنامج أن كان قد رسم شيئاً أثناء وجوده في السجن أجابه يانسن ضاحكاً بمكر " نعم ... لقد رسمت واحدة لشاغال ."
كيف يمكن تزوير لوحة فنية؟
[post-views]
نشر في: 6 مارس, 2015: 04:49 ص
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...