TOP

جريدة المدى > عام > قصرُ الثلجِ ما يزال قائماً 2-2

قصرُ الثلجِ ما يزال قائماً 2-2

نشر في: 7 مارس, 2015: 05:58 ص

مرةً كتبتُ : كانت لها حواس لا تُحصى تنشرها على الكون كله وتستوعبه كلَّهُ حينما تستلقي بين تحفها والكتب. ارى الان ثانيةً تشبهها ، قد تكون هي أيضا. هذه تغفو على اكداس من النعناع البري في فناء المزرعة. قالت بشراسة القطط : هذه ليست انا وانت تخونني، دَن

مرةً كتبتُ :
كانت لها حواس لا تُحصى تنشرها على الكون كله وتستوعبه كلَّهُ حينما تستلقي بين تحفها والكتب. ارى الان ثانيةً تشبهها ، قد تكون هي أيضا. هذه تغفو على اكداس من النعناع البري في فناء المزرعة. قالت بشراسة القطط :
هذه ليست انا وانت تخونني، دَنَس في الخيال!
المشكلة انني كنت متأكداً من أنها هي !
خسرتُ سنداً نظيفاً. وعدتُ ، كما كنت ، واحداً من عالم الفقراء. مشكلة البرجوازية انها تخون. ومهما كانت قيمها عزيزة عليها ، فهي تغض البصر وتبيعها اذا جاءها ثمن جيد. الفقراء يموتون بأسمالهم شرفاء!
هكذا إذن عاد ابن الصرائف الى اهله غير آسف على الاضواء البعيدة والموائد المحملة بصنوف الطعام وصنوف الدعارة..
أيها الكذَبة لا علاقة لي بكم ،
انا عائد لأهلي !

 

امس كنا ثلاثة وكان غداؤنا سبعة ارغفة ساخنة جاءتنا تضيء مثل اطباق ذهبية. خرجت من تنور طين وبنار من خشب النارنج والرمان اليابس وثلاثة عناقيد كبيرة من عنب ، كل واحد اشقر مثل ثدي معافى . شربنا ماءً من الساقية ونمنا قريبا منها في البستان. واستيقظنا آخر العصر مثل أباطرة ! 

في المدينة تلذ لنا الأزقة، كانت ممراتنا الى مباهج لا ترى . وفي انعطافاتها الظليلة الرطبة، نقاط لقاءات خاطفة، وبطولة كتّابِ شعارات ممنوعة على الجدران وخلايا أحزاب سرية وطبول وشموع اعراس يترصدها الشرطة من بعد .. 
كانت سعادتنا في فتح النوافذ، 
في فرص القطاف الصغيرة ، ناسين اننا نرتدي اسمال السنة الماضية. 
نعود من العمل متعبين لكن فرحين بقرب الوصول الى الأُلفة. خبزنا كفافنا. نقرأ ، أو يقال لنا، ان الناس في القصور البعيدة عن ازقتنا، يفضلون طبقا على طبق وحلوى على حلوى ولهم قصص في العواصم.
ونحن فقراء الارض، كان غداؤنا وعشاؤنا من قدر واحد وافطارنا من بقية العشاء. وكان آباؤنا يسعلون نيكوتين صرفاً . وكنا نقبع في اكواخ من طين سقوفها من جذوع النخل المشقوقة نصفين. مع ذلك كنا طيبين وصدورنا تتفتح لشذى الرز قبل دخول البيت. وكنا نفكر بالآخرة ، او كما علمتني الكراريس، بالمستقبل! 
ان هذا لا يستوجب شرطةً ولا رصاصاً ، مع ذلك عرفنا السجون وتلصص رجال الامن وفقدنا اخوة واصدقاء، اسماهم الهمُّ المشترك "رفاقا" . 
مادمنا في حديث الفقراء اسمحو لي بقصتين ففيهما ما يكفي : 
كنت صبيا ابتدائياً في مدرسة الفضل ، ومدرسة الفضل وسط مجتمع بغدادي من الكسبة الكادحين. الى جانبها سوق وخلفها سوق وامامها شارع مملوء بالباعة. بيتنا كان في الكسرة قريبا من ساحة الكشافة والمسافة البعيدة لا تسمح للصبية بالعودة الى دوام بعد ظهر. نأخذ بضعة قروش من أهلنا نتغدى بها. لكن الطفولة الجائعة للطرائف تحفزنا احيانا لأن نشتري بها مذاقات، "دوندرمة" مثلا، ونبقى بلا غداء. عموماً كنا نشتري خبزةً وشيئاً نأكله فلا نجوع.
كانت امرأة من بغداد – الفضل تبيع في قدر لها طعاماً تصنعه في البيت "دولمة" وتضع لنا في الصحن بضع وحدات نعبر بها خشونة الخبز الى مِعَدنا الجائعة. كانت هذه المرأة – الأم ترمقنا، ونحن ننهي الصحون، وفينا بقية شراهة أو جوع. تفتح القدر ثانية وتضيف المزيد لأبنائها الفقراء. لا تريدهم ان يغادروها جياعاً. 
هي أُم خصب، هي عراقية صميم. 
هي شرف مستقرٌّ في مكان !
هكذا يتعاطف الفقراء ..
وهذه قصة ثانية : رجل كنا نحبه ، نهابُ فضائله وجاهَه . هذا الرجل الذي احدثكم عنه، معطرّ ، كل يوم أو يومين يزهو ببدلة ، وكلماته غير متعَبة مثل كلماتنا، كأنها لم تتعلم المشي بعد. ويتحدث كمن استيقظ تواً. صنفٌ فخم من نبات الظل. 
لستُ ضده، ولا احسده ولكنني معجبٌ بعالمه ، ففي بيته مرمر وابنته اذا اطلت من الباب، تُضيء ، ونوع تمرهم مختلف ولا يعطي احدا من فسائله! ويوماً رأيت بطيختين كبيرتين جداً، بين عشر رقيات كبار مكومة عند بابه. وقرب الكوم سلة مشمش. 
الرجل كان طيبا يتصدق على الفقراء "صدقة قليلة تدفع بلايا كثيرة" : (آه تذكرت): تدفع عنهم الثورة علمتني الورقات السمر ! 
وكنا نقطف من اشجارهم اجّاصاً اخضر وهو لا يبالي بالنارنج المتهدل خارج السياج، كل اصحاب القصور كذلك (فرصة لابناء الاكواخ يتعلمون فيها التجاوز!)
مرةً ، وقد صرت اقرأ الكتب، وقفت أنظر الى بيته وبيتنا حتى جاءت زوبعة وارفضَّ منها بلور، انهال منها مطر . ابتلت ثيابي واغتسلتُ وأنا أُكمل متعتي بانسيابات المطر على زجاج نوافذه المضاءة . درس الدين قال لي : اشياء فانية والحياة في الآخرة. لكن كتابا بورق اسمر خشن، قال لي : الثورة تملأ المسافة الفارغة بين بيتك وبيته! 
ارباك في القول الثاني
وهدوء جميل في القول الاول 
وبيتنا مخجل قرب بيته
بدأت تلك الايام اكتب شعرا عن جمال ابنته الباهر ، التي يراها العابر فلا ينساها. وكان الرجل مهيباً بفضائله، 
وكنا نحبهُ ونجد فيه حِمى . 
الصدمة التي حرفتني عن المسار هي : بعد ما انفضّت المظاهرة في المدينة وتشتّت "اليساريون" في الأزقة، رأيت هذا الرجل، هو لا غيره، يفشي سرَّ جارنا الذي اختفى . رأيتهُ يدل الشرطة على البيوت بيتا بيتا . سمعتُ هذا الرجل المهيب بفضائله، الذي نحبه ونحب بيته، يقول : 
" هذا شرٌ يُقضى عليه في ليلته 
و إلا ستحرق نارهم المدينة! "
صرتُ انظر الى بيته واخفض رأسي ، كأنْ منه تخرج الطلقات ، 
ولكن ابنته ظلت جميلة !
رويت هذه القصة ، لأشير من جديد الى القصة الاولى. المهم ، ان الليالي مرت محملة بلواعجنا وبقيَ شتاء الفقراء لا لون له. نلاحق فيه اشياء هاربة وننتظر ما يأتي وفي روحنا غصة : انه لا يأتي! 
محزن مشهد جذوع الاشجار واغصانها بلا ورق في الشتاء، رأيتني مثلها. 
الاضطراب الذي حصل وضعني في حومة الضرورة في دائرة الحَتْم ، وضعني بين الكتب التي تريد تغيير كل شيء . 
نحن نريد حياة اخرى ولا نريد ان نخسر ما نحب في الاولى ، مدخلٌ للتصدّع ، ومن بعد للاختلاف ومن بعد للـ ... ! شيءٌ مؤسف .
الاعداء المختفون في الطوابق العليا او وراء واجهات المصارف ، يسمون السقوط بطولةً وترك الصفوف انتصاراً للذات وللانسان الغائب في الزحام، تافهٌ كلام المحرّفين !
كثيرة هي الاقوال التي تجيء من الضد، مثلما كثير هو الرصاص. نعلم الاّ مصلحة لنا فيها. شكولاتا سامة . نتبناها، اما اتقاءَ الموت أو رغبةً في حضور الحفل. ما بقي من الاسباب اكاذيب! 
سأحدثكم عما جرى بعد خسوف الشمس : نسينا ان نسقي الازهار في الحديقة، ولم نعد نسمع النشيد الذي يأتي من السجن ليلا، خسرنا شرف الموكب لكنا نجونا، او آه آه ، نجونا من الشرف ولا ندري ! 
في هذا الشجن ، تساءلت يوما كما تساءلتْ "روزيللي" في "آسيا" تورجنيف عن قصر الثلج الذي شُيِّد في بطرسبرغ في القرن الثامن عشر، وعما اذا كان ما يزال قائما ...؟ 
الغريب ان جوابي كان نعم ، ما يزال قائما وأراه ! 
واذا كان وهماً فأنا لا اريده ان يختفي ! 
قد يكون سبب ذلك 
بيتنا الطيني الذي سقفه من جذوع النخل المشقوقة نصفين ، 
واننا لا نملك غير هذا القصر ولا نريده ان يغيب..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram