وارد بدر السالم لا يحتاج العراقيون الى مناسبات كثيرة كي يحزنوا ويستعيدوا مآثر الألم الطويلة التي مرت في يومياتهم العجيبة، فقد توارثوا الحزن منذ حقبٍ طويلة، وسلخت أجيالهم المتعاقبة وجوهَها بالدموع والبكاء والحسرات والنشيج عصوراً ودهوراً وقروناً؛ حتى بات الحزن سمة الحياة بخيرها وشرها.
وصارت وجوه الناس أقرب الى الفجيعة منها الى الفرح والطمأنينة! ويبدو أن هذه الوراثة السوداء انطبعت في الجينات الفردية وسلكت مجاري الشرايين والأوردة، وتعاشقت مع أرواح الناس جماعاتٍ وأفراداً، لتكون سمة العراقيين في حلّهم وترحالهم. كل الشعوب تحزن وتشقى وتمر بدورات عصيبة تأخذ من جروفها ما تأخذه ولا تترك غير أثرٍ من ذكريات ليست جميلة في الأحوال كلها، لكنها كانت تكابد وتمضي الى المستقبل بقوة وتتشرب أفراحها عنوة، فالحياة لا تعاد مرتين، وما يتركه الأثر الماضي سجل من سجلات الشعوب تراه وتقرأه وتستحلب العِبرة منه كي تمضي بقية أشواطها بمقدار ما تكتنزه من قوة لمواجهة الحياة؛ إلا نحن فقد استورَثنا الحزن وشقّ دروبه في مسارب حياتنا؛ فأورثناه بدورنا الى اللاحق من أجيالنا بصكوك اجتماعية شرعية وعلنية، لنحفظه كنزاً من كنوزنا الأثيرة ونكتبه في وصايانا، فالحزن لا يرثه إلا من سار على دربه طيلة حياته! هذا الرصد الحقيقي لهذا اللون الاجتماعي وحالته النفسية المكشوفة المتفاعلة مع الزمن، يقال أن له ما يبرره تاريخياً واجتماعياً وسياسياً، وهو أمر شائع بين الباحثين الاجتماعيين والنفسيين والراصدين حقيقة هذا التذمر القاسي؛ لكن قد يكون هذا شأناً بحثياً طويلاً لا نجد متسعاً للوقوف أمام مفرداته وتفصيلاته، غير أننا نؤشره أيضاً وندور حوله في محاولة للتعزية الجماعية، لا لوجود مناسبة ما، لكن ربما لوجود خلل في التركيبة النفسية الجماعية التي لا تني في أن تحتك بأية فرصة ومناسبة لتفجر خزين الحزن الهائل بشتى الطرق والمناسبات، حتى ولو بطريقة الاستعراض المجاني، ليتحول هذا الضغط من حالته الفردية الى حالته الجماعية؛ ليمثّل استماتة لاواعية في تركيز نمط نفسي قائم على السوداوية وجلد الذات والخروج الى أفضية القهر الذاتي ومتراكماته الشخصية المعقدة. حتى في ثقافتنا العامة تحول الحزن الى عنوان يَسِمُ كل شيء فيها، فمن آدابنا القديمة والحديثة الى فنوننا الغنائية وقصائدنا الشعبية، تتحول الثقافة عادة الى ندّابة موتى ولوعة وغياب وفراق وقهر وبُعد وشك ونشيج وبكاء، وشريط طويل من الأنين المعذّب وسلخ الروح وتلاشي الشخصية وذوبانها في طوفان من حزن أبدي يبدأ ولا ينتهي، وكل ما هو متضامن مع التيئيس وتعتيم الذات الى أقصى درجة ممكنة والقضاء على بوارق الحياة وآمالها العريضة.. ولا نريد هنا أن نخرج من هذا السرب المعتم ولا نفسره، فلقد وُلدنا في حاضنته وشببنا وسننتهي فيه، لكننا نشخّصه في بلاد الحزن الطوييييييل، وهي تمر في المآتم المولودة في زمن السياسة الجديدة، وما كرسته من ندوب عميقة في أرواح الناس وذواتهم، العراقيون لا يحتاجون الى الكثير من منبهات الحزن كالصراع الطائفي أو الاستقتال على كراسي السلطة ليحزنوا أو تشق عليهم الحياة أو يعتادوا الفقر؛ فبلاد النفط التي أفقرت أبناءها في كل الأزمان، أورثتهم جلّ كنوزها الحزينة ورمت بهم الى حافات الموت واليأس في العصور كلها. وليس عجيباً أن تدور دورته الآن في ظل سياسات الاحتراب الحزبي والمذهبي المعلنة وغير المعلنة، ليرتدي المجتمع أكفانه السود ويغلق باب الحياة الجميلة... فمن لم يمت بالسيف مات بغيره..!
بلاد الحزن الطويل
نشر في: 19 ديسمبر, 2009: 06:03 م