"وما أصعب أيضاً أن يجد المرء ذاته على نقيض قيمه ومبادئه.. وما أصعب لحظات تأنيب الضمير وهو ينقض بلا رحمة على نومي وصحوي ويعذبني بأشد أنواع التعذيب الذي لا يمكن لي أن أسرد تفاصيله.. وما أصعب أن يرمي المرء- مختاراً- نفسه إلى ذلك العذاب وإلى محاكمة النفس
"وما أصعب أيضاً أن يجد المرء ذاته على نقيض قيمه ومبادئه.. وما أصعب لحظات تأنيب الضمير وهو ينقض بلا رحمة على نومي وصحوي ويعذبني بأشد أنواع التعذيب الذي لا يمكن لي أن أسرد تفاصيله.. وما أصعب أن يرمي المرء- مختاراً- نفسه إلى ذلك العذاب وإلى محاكمة النفس وتقريعها..."
ويستطرد الجواهري فيقول واصفاً لحظات وجوده في قصر الرحاب وقبل أن يلقي قصيدته: "فلقد وجدت نفسي ضمن حشود متناقضة متجمعة في قصر الرحاب، وأكثر تلك الحشود من البرجوازيين والرجعيين والحاكمين.. وجميع هؤلاء ممن يتربصون بي.. ومن حقهم الطبيعي ذلك لأنني طالما نلت منهم وعرضت بهم بقصائدي ومقالاتي، ومواقفي، وتربصت بهم..
ومع ذلك، ولكي أكون أميناً مع التاريخ ، فقد كان من بين تلك الحشود البغيضة رجل قريب مني صديق لي، ألا وهو السيد "ناظم الزهاوي" الذي قال وهو يستمع إليّ، لا يا جواهري... وكانت تلك، اللا، وأنا في ذروة الصراع مع الذات قد أشعلت الفتيل المزروع في جسدي والذي أحاول عبثاً أن أغطيه بحفنة من رماد المغالطة وتراب التبرير ودارت الأرض بي.. فقدت المقدرة على الموازنة بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون . وفي هذه اللحظة وأنا ذاهل بـ "لا" الزهاوية.. لست أدري لماذا فقدت قوة المغامرة الجريئة والمشرفة التي أتميز بها.. فلو لم أفقدها لكان علي أن أغادر ذلك الحفل في تلك اللحظة تماماً.. وليكن بعده ما يكون وماذا عساه يكون.. ستغضب العائلة المالكة عليّ.. وسيغضب سيدها الأول الرهيب غير المتوج.. ليكن وإلى جهنم وبئس المصير.. فمتى كنت أحسب حساباً لهذا وأمثاله حساب الصيارفة والمتاجرين..
لقد دارت الأرض بي من جديد وأنا أسمع صديقي "الزهاوي" وهو يردعني لا بمجرد سمعي بل بدمي وضميري وهممت بمغادرة هذا الحفل بحجة أنني نسيت القصيدة في بيتي.. ولكني استدركت وقلت: إن مجرد خروجي وأنا محط الأنظار الشاخصة أمر غريب وحجة النسيان أمرها أغرب.." (ذكرياتي/ج2)
هذه هي القصيدة التي لم يندم الجواهري على شيء مثلها في حياته كلها.
وهناك ملاحظة بسيطة تخص ما جاء في الحلقة الرابعة بخصوص المظروف المالي الذي بعثه رئيس الجمهورية السورية حينذاك "شكري القوتلي" إلى الجواهري، إذ يذكر الدكتور عز الدين: "... ولكنه أرسل إلى الجواهري في اليوم التالي مظروفاً، فيه مبلغ كبير من الليرات السورية. فأخذها الجواهري وأخرج ليرة واحدة وقبلها ووضعها في جيبه وأعاد البقية إلى (القاصد)..." وللدقة والتاريخ فإن الجواهري أخرج ورقة نقدية واحدة منها وليس ليرة واحدة وقبلها وأعاد الباقي، إذ من غير المعقول أن يبعث رئيس الجمهورية إلى الجواهري ظرفاً يحتوي على مبلغ فيه أوراق نقدية من فئة الليرة الواحدة.
أما بخصوص تاريخ ولادة الجواهري، التي وردت في الحلقة السادسة من خواطر الدكتور عز الدين، فحسب قناعتي لا علاقة لها بالتقويمين الميلادي والهجري، وإنما أساسها أن الجواهري كان يتمنى الحياة مدة محددة (لنقل قرناً كاملاً) ولذلك كان كثيراً ما يعتب على أخلص أصدقائه في مورد تاريخ ولادته: "لا أدري لماذا يريدون تقصير حياتي!!" وبالتأكيد كان الجواهري كارهاً للموت وكل ما يتعلق به فهذه الكلمة "الموت" لم ترد على شفتيه إلا مرة واحدة وبأيام معدودات قبيل رحيله الأبدي وهو يخاطب ابنته البكر "أميرة" : "الموت معجزة."
وبهذا الصدد فإنه كان يتجاهل ذكر جميع من رحل قبله من أقرباء أو اصدقاء وكأنه لا يريد أن يبهج الذئب الذي يترصده بكثرة غنائمه.
وفيما يخص عمل الجواهري في البلاط الملكي فمجريات الأحداث تختلف عما جاء في خواطر العزيز عز الدين. فلم يأخذ الملك فيصل الأول الجواهري في معيته من النجف ولم يخلع الجواهري عمامته في البلاط الملكي وإنما بعد أن ترك وظيفته في هذا البلاط .
ويتحدث الجواهري في مذكراته (ذكرياتي ج1) عن زيارة الملك فيصل الأول للنجف الأشرف فيذكر: "...أما في الزيارة الثانية للأمير السابق إلى النجف فقد مرت عليها سنتان تقريباً، وهو ملك على العراق، وفي هذه الزيارة كانت قصيدتي المرفوعة إليه على يد العم الأكبر الشيخ جواد، ولا أدري لماذا لم أرفعها إليه بنفسي، وهي من القصائد الرقيقة:
أُعِدَّ لك النَّهَجُ الواضحُ
فسِر لا هفا طيرُك السانحُ
وحيّاك ربك من ناصحٍ
إذا عزّنا المشفقُ الناصحُ
... كانت قصيدتي تلك المشار إليها من أولها إلى آخرها استلطافاً واستعطافاً بل وبما يشبه الاستفزاز للملك فيصل فيما كان من مظلمة لحقت بهؤلاء الأقطاب ولأهمية عودتهم إلى العراق." (المقصود هي قضية نفي العلماء الأوائل: الشيخ "مهدي الخالصي" و"السيد أبو الحسن" والشيخ "النائيني" إلى خارج العراق/ الكاتب)
أما موضوع تعيين الجواهري في البلاط الملكي وخروجه منه، فله قصة أخرى تختلف تماما عما ورد في خواطر الدكتور عز الدين.
فالجواهري قدم إلى بغداد بعد أن أخبره صديقه "باقر الشبيبي"، كما جاء في (ذكرياتي ج1)، أنه: "مرشح للتدريس في إحدى ثانويات العراق..." ولكنه فوجئ في بغداد بأن وظيفته هي التعليم في مدرسة ابتدائية لعدم حصوله على شهادة مدرسية ومطالبته بإبراز شهادة الجنسية العراقية.
لقد عكست قضية تعيين الجواهري في سلك التعليم آثار التعصب الطائفي ونتائج التخندق الطائفي التي نعاني اليوم من ويلاته فوزير المعارف حينذاك كان "السيد عبد المهدي المنتفكي" ومدير المعارف العام المتنفذ "ساطع الحصري".
ويستسلم الجواهري للأمر الواقع ويباشرعمله معلماً في المدرسة الابتدائية في الكاظمية. ولكن ما أن يمر أقل من شهر حتى يستدعى الجواهري إلى مجلس تحقيقي برئاسة ساطع الحصري ليواجه "بتهمة!" نشره قصيدة فيها: "ما يشبه التنصل من العراق والتمدح لإيران"!! والقصيدة المعنية هي بعنوان يفند أساساً هذه التهمة، وهو "بريد الغربة" التي مطلعها:
هبَّ النسيم فهبتِ الأشواقُ
وهفا إليكمْ قلبُه الخفاقُ
وما استند إليه من اتهام هو البيت:
لي في العراق عصابةٌ لولاهمُ
ما كان محبوباً إليّ عراقُ
وينتهي التحقيق بأن يصدر "ساطع الحصري" قراراً بفصل الجواهري من وظيفته. ويقول الجواهري بصدد ذلك في مذكراته:
".... وإذا بي وكما قلت وكأنها هدية العيد، أسلم أمراً إدارياً بفصلي من وظيفتي. ذهبت إلى الوزير لأخبره بذلك فبادرني هو ومن معه بالتهنئة على وظيفتي ودوامي فيها بينما كنت أحمل كتاب الفصل منها لأقدمه إليه تهنئة بتهنئة وعيداً بعيد، وكان ساعتها يتأهب للسفر إلى النجف كما هو المألوف عنده وعند أمثاله في مثل هذه الأعياد. فيتصل فوراً بـ (عاصم الجلبي) مدير معارف بغداد ويسأله عن هذا الكتاب وعن هذا التبليغ، والحق أن عاصماً ، وهو من عائلة الجلبي المعروفة في الموصل، كان متجرداً من كل هذه الأجواء النواشز ولا يهمه أن يكون رئيسه ساطعأً أو غيره ولا أن يكون وزيره ومرجعه الأعلى (عبد المهدي) أم سواه، فيجيبه عاصم:
"إنه بأمر من مدير المعارف العام، ساطع يا سيدي وليس مني" فيقول له (عبد المهدي): "يصلك التبليغ فيسحب وسيأتي دور ساطع بعد العيد."
وعدت أنا والوزير منتصرين بعد انهزام في هذه المعركة، إلى تعليمي في المدرسة ذاتها...."
وأدى هذا الموقف إلى اعتكاف "ساطع الحصري" في بيته احتجاجاً لمدة شهر كما يقول الجواهري. وكانت نهاية الموضوع أن يقدم الجواهري استقالته من التعليم . وبخصوص ذلك يقول الجواهري في مذكراته: "... فإذا بي، في اليوم الأخير أو قبيل الأخير من الشهر الذي داومت فيه بوظيفتي، واعتكف فيه "ساطع" في بيته منكفئاً على نفسه، أجدني وجهاً لوجه أمام عد تنازلي جديد من الوزير.
وفي ساعة مفاجئة لن أنساها، كان "باقر الشبيبي" ماثلاً أمامي، وقاصداً إياي من بغداد إلى الكاظمية حيث أنا وأهل بيتي ووظيفتي ليقول لي: "لنتمش قليلاً" وتمشينا خارج أبواب الكاظمية، وفهمت أنه مرسل من لدن المنتفكي، ليبلغني ما يلي: "يا أخي قد انتصرت في المعركة وأخذت حصتك منها والآن وقد وصلت الأمور إلى حدود لها ما بعدها (ويقصد اعتكاف الحصري) فليس أمامنا إلا حل وسط مشرف لك وهو أن تستقيل" قلت له: "جزاك الله خيراً ولا عاب فمك ولسانك، سأقدم استقالتي..." وهكذا انتهى موضوع التعليم.
ويكتب الجواهري إلى عمه الشيخ جواد الجواهري خلاصة هذه الدوامة. فيأتيه جواب عمه سريعاً مشيراً عليه بمراجعة السيد محمد الصدر. فيذهب الجواهري إليه ويطلب السيد الصدر منه أن يعود إليه في اليوم التالي ليفاجئه بأنهما ذاهبان سوية إلى الملك فيصل. ويكتب الجواهري عن لقائه الأول بالملك فيصل الأول في مذكراته:
"كانت هناك ثلاثة مقاعد وكأنها قد هيئت لمثل هذا اللقاء. الملك في صدر الجلسة، وإلى يمينه السيد الصدر وأنا قبالة الملك نفسه، وجهاً لوجه.
وحزرت، ليس ساعتها والحق يقال، حزرت بعد ذلك، كما لو كنت عارفاً به قبل وقوعه، أن المطلوب أن يُري السيد الصدر، الملك فيصل، هذا الشاب "الأجنبي!" "غير العربي!".
... لم يتكلم السيد الصدر كثيراً أما أنا فقد قلت له : "يا جلالة الملك، قبل أن أتشرف بهذه اللقيا، كنت صاحب القصيدة التي رفعت إليك عن نفي علماء النجف" فكان يهز رأسه بكل مودة وبشاشة "أجل"، وأنا صاحب قصيدة "سجين قبرص" عن والدك العظيم.