انتشرت في السنوات الاخيرة ظاهرة القنوات الفضائية المتخصصة مثل القنوات الاخبارية، الرياضية، الوثائقية، الدرامية، الثقافية - الحالة النادرة - والموسيقى والغناء والاطفال.. الخ واغلب هذه القنوات غايتها تجارية في المقام الاول، وبعضها لتصدير او تسويق افكار
حميدة العربي
انتشرت في السنوات الاخيرة ظاهرة القنوات الفضائية المتخصصة مثل القنوات الاخبارية، الرياضية، الوثائقية، الدرامية، الثقافية - الحالة النادرة - والموسيقى والغناء والاطفال.. الخ واغلب هذه القنوات غايتها تجارية في المقام الاول، وبعضها لتصدير او تسويق افكار معينة يسعى اصحاب الفضائيات لبثها ونشرها، او تقديم ظواهر او ثقافات اجتماعية جديدة -او قديمةـ يراد احياؤها، وعادة ما يكون الهدف المعلن، لتلك القنوات، هو تقديم المزيد من المعارف والمعلومات في كل مجالات التخصص، الا ان النوايا الحقيقية لهذا الكم الهائل من القنوات التخصصية تظهر في نوعية وطبيعة المواد والبرامج التي تقدمها واساليب الطرح والتنفيذ والتقديم، فالمتابع لبرامج تلك القنوات على اختلاف تخصصها، يلاحظ ـوبشكل عام- انها تقليدية في اسلوبها مملة في عرضها تكرر نفسها او تقلد غيرها..
لم تأت بجديد على صعيد الافكار والاعداد والتتنفيذ، الجديد فيها هو كثرة الاعلانات والاتصالات، وهذا احد اهدافها الرئيسية، والاهم من هذا كله انها ظلت قاصرة ـ بقصد او بدونه ـ عن نشر الوعي الاجتماعي والثقافي والعلمي ولم تسهم في تغيير عقلية المجتمع نحو البناء والانتاج والتقدم الحضاري.. بل ان بعضها ساهم في زرع الفرقة والتشرذم واضعاف الروح المعنوية للناس بنشر الخرافات والشعوذة وتثبيت الافكار الرجعية والمفاهيم العشائرية والقبلية التي تحد من حرية التفكير والتعبير وبالتالي الاكتشاف والاختراع والابتكار .. من المعروف ان العقلية الغربية تعتمد النثر وتتبناه اساسا في حياتها لأنه يستفز الذهن ويحرض العقل على التفكير والتحليل والاستنتاج .. بينما العقلية العربية تميل الى الشعر لأنه يحرك المشاعر والعواطف ولا يؤدي الى النقاش والتفسير والتحليل .. وعلى هذا فقد امتلأت الفضائيات التخصصية بالمواد الجاهزة كالافلام والمسلسلات والبرامج الوثائقية والاغاني، تعرضها دون مناقشة او تحليل او نقد او اضافات مبتكرة، بل ان الكثير من برامجها مأخوذة من نسخ عالمية دون تغيير او تعديل.. القنوات الموسيقية - مثلا - تعرض ما يسمى بالاغاني الشبابية على مدار الساعة دون التفكير في نقدها وتشخيص اسباب رداءتها وهبوط مستواها.. ولا تقارن بين الجيد والرديء في الغناء، بحضور متخصصين وبشكل مستمر، لتهذيب الذائقة العامة ولتنبيه الشباب والصغار بأن ما يقدم ليس احسن الموجود. بل انها خصصت قنوات للقديم واخرى للجديد وبهذا حرمت الصغار من الاستماع الى القديم وشجعتهم على مقاطعته وحرضت الكبار على اهمال الجديد والابتعاد عنه. اما قنوات الدراما فأن اكثر ما تفعله بعد عرض انتاجها من المسلسلات، هو استضافة ابطال تلك المسلسلات وتوزيع جوائزها وتكريماتها عليهم، وهو فعل واسلوب فيه الكثير من السطحية والاستخفاف بعقلية المشاهد وفهم خاطئ لمعنى التقييم والتكريم.. فكل قناة تنتح عملا دراميا وتعتبره افضل الاعمال، ومخرجه احسن المخرجين وبطله اعظم الممثلين وبطلته نجمة الموسم! والغريب ان الكثير من الفنانين يصدقون ـ او يتظاهرون بالتصديق ـ كل حسب اهدافه وغاياته ومستواه الفكري. واغلب هذه التكريمات عبارة عن دعاية لاصحاب الفضائيات وللمسؤولين والجهة المنتجة.. تتم من خلال الفنانين والفنيين.
والقنوات العراقية المتخصصة ـ على قلتها ـ لا تختلف كثيرا عن نظرياتها العربية.. لكن البعض منها اكثر انغلاقا وتقييدا من القنوات الرئيسية التي تتفرع منها.. او اكثر انفتاحا وبهرجة.. حسب سياسة القناة الام في تعويض حاجة ما، او لدرء تهمة الانغلاق عنها.. الملاحظ في البلدان المتقدمة ان القنوات التخصصية تتميز، بتركيزها على المجال الذي تخصصت به فقط.. وتتفنن في تقديم ما هو جديد ومبتكر وجذاب ولديها استقلالية تامة عن القناة - العامة - لا تتأثر بالاحداث ولا تقطع برامجها لتحتفل او تحزن او تروج مع القنوات الاخرى، اما قنواتنا التخصصية فهي تابع للقناة الرئيسية، يغيب عنها التنسيق والتنظيم، ينقصها احترام المواعيد ـ التي هي من احترام المشاهد ـ وتميزها قلة الخبرة في الاخراج والاعداد والتقديم، خالية من الابتكارات ووسائل الجذب والتشويق، لا تبالي بالاعتداءات الصارخة على اللغة الفصحى.. تقدم برامجها بعيدا عن الحداثة والتطور التكنولوجي والمعرفي الهائل الذي يجتاح العالم بانطلاق وتواتر .. فالقناة التربوية، العراقية (التعليمية) مثلا، تقدم دروس للطلبة.. ولكن كيف تقدمها؟ انها تنقل لهم الصف المدرسي الى الشاشة، فهناك معلم وسبورة او وسيلة ايضاح، والمعلم يشرح للمشاهدين كما لو كان داخل صف في مدرسة فعلا ! فهل يعتقد القائمون على هذه القناة ان التلاميذ سيتابعون هذه الدروس وبهذه الطرق التقليدية المملة التي تذكرهم بالصف؟ فهم يخرجون من صفوف المدرسة ليجدونها امامهم على الشاشة.. في حين لديهم ـ حاليا ـ الانترنيت والتكنولوجيا الحديثة التي تقدم لهم كل ما يبتغون من المعلومات بطرق منوعة وبالوقت المناسب لهم.. الم تفكر القناة بتقديم تلك الدروس باساليب مشوقة ومبتكرة، كالدراما او المسابقات او العاب معينة، حسب الموضوع والمرحلة الدراسية.. كأن تحول الاحداث التاريخية والنظريات العلمية والاختراعات والاكتشافات الى مسلسلات بسيطة واضحة يتم، من خلالها، شرح لتلك الاحداث او النظريات، خصوصا ان اغلب الاحداث التاريخية العالمية والاختراعات تحولت، فعلا، الى اعمال درامية او برامج وثائقية يمكن الاستفادة منها، وايضا من برامج البيئة والطبيعة وعالم الحيوان والنبات وعالم البحار وغيرها من البرامج التخصصية، ويمكن استضافة مدارس ومجاميع من الطلبة لاجراء المسابقات او الالعاب، اضافة الى تبادل الافكار والمعلومات والنقاش حول المواضيع والمواد العلمية والادبية والفنية التي تخص دراستهم وبيئتهم، ولتشجيعهم وتحفيزهم كطلبة وكأعضاء في المجتمع.. ولخلق جو من التشويق والتفاعل بين البرامج (الدروس) وبين المشاهدين (الطلبة) بدل الشرح العقيم الذي يقدمه المعلمون على الشاشة بطريقتهم الاستاذية.. لا بأس ان يظهر المعلم، كمقدم برامج ، يعلق او يشير الى بعض النقاط اثناء عرض الشريط او المسابقة.. الخ.
اما القنوات الثقافية، على قلتها، فأنها لم تخرج عن الدائرة التقليدية التي تميز القنوات الاخرى.. حيث يعتقد البعض ان مجرد تقديم لقاءات مع ادباء وفنانين او نشر اخبارهم، امر كاف لاعطاء القناة هوية ثقافية.. فكم من المواضيع الحياتية والادبية والفنية والعلمية والسياحية والترفيهية والنشاطات الاجتماعية المتنوعة يمكن ان تستوعبها قناة الثقافة .. ان اي قناة، وخصوصا الثقافية، لما لها من تأثير كبير وعميق على المشاهد، تحتاج الى خبرات وتخصص وكفاءات واطلاع على تجارب عالمية في كافة مجالات المعرفة الانسانية والحضارية.. وهذا ما ينقص القنوات المتخصصة الحالية ويفسر قلة القنوات الثقافية، مضافا اليه، الاهم، وهو عدم اعتراف اصحاب الفضائيات بأهمية الثقافة ودورها في النهوض بالمجتمع وتطويره. لذا فالبرامج التي يطلق عليها ثقافية، بأغلبها، تهتم بعرض النشاطات الثقافية واخبار المثقفين ولا تقدم ثقافة حقيقية مؤثرة ومغيّرة.
ان الاهتمام بالكم، في موضوع القنوات التخصصية، على حساب النوع يفسر عدم فهم واستيعاب الهدف الاساسي من انشاء وافتتاح تلك القنوات، ويوضح ضعف تأثيرها، بين وسائل الاعلام.. ومتى ما يؤمن ويقر اصحاب الفضائيات والمسؤولون عنها بأهمية الثقافة ودورها في التوعية والتغيير والبناء.. ويعترفون بحرية التعبير والتفكير.. ويمنحون القنوات التخصصية استقلالية اكبر ويرفدونها بالحداثة لتواكب حركة العصر وانفتاحه نحو المستقبل.. عند ذاك سيصبح وجود القنوات التخصصية ذا جدوى حقيقية وتأثير واسع في توعية المجتمع ونهضته وتطوره.