TOP

جريدة المدى > منوعات وأخيرة > أغنيات عفيفة اسكندر

أغنيات عفيفة اسكندر

نشر في: 22 أكتوبر, 2012: 07:38 م

تميزت اغنياتها بنكهة رائعة وكانت تصدر من واقع بيئة بغداد الحضرية ، وهي تمتاز بروحها العراقية وفنتازيتها الراقصة المستمدة من طفولتها الموصلية .. كانت تراعي في اختياراتها من الكلمات والقصائد والموشّحات التي كانت تعشقها عشقا خاصا . رأيتها مرة في طفولتي ببغداد في احدى بيوتات قريباتي وهي تقرأ شعرا في حفل خاص بحديقة غنّاء وكانت رائعة الاداء وتدرك معنى مخارج الحروف .. وهي تدرك عناصر الجذب من قبل الفنان للآخرين وكيف ترسم الابتسامة على الوجه وكيف تحّرك ملامحها من اتجاه لآخر . ولقد تعاملت مع ملحنين عراقيين كانوا يحترمونها ويأخذون برأيها وكانت تحترم عملها وتحب جمهورها وتنعش حفلاتها .. ولعل اهم ما كانت تعتز به صديقاتها القديمات من سيدات مجتمع بغداد . ولم نعرف لعفيفة اسكندر غناء لعهد أو ذماً لآخر، سوى للوعة التي تتركها أزمان وراء أزمان ، ولم نسمع الوطن إلا في بحر المحبة الفائض الذي يتدفق من كلمات أغنياتها.
لقد واصلت عفيفة حضورها متعدد المستويات في الأغنية العراقية، اذ كانت لها "كاريزما" من نوع خاص، وكانت قد ارتبطت بالنخبة المثقفة والسياسية على الأغلب، قبل أن تغيب، معلنة اعتزالاً غنائياً معروف الأسباب، وهي ترى تحول جميع المطربات والمطربين العراقيين الذين أتوا من بعدها إلى كورس موحد، يلهج بصفات الدكتاتور. قبل أن تغيب غيبتها تلك كانت عفيفة قد تركت عهداً من الشجن الآخر الذي لم يعد متاحاً منذ غيابها.
ولعلّها الوحيدة من بين جميع المطربين العراقيين على الإطلاق، ممن بقوا داخل العراق، التي لم تظهر لا في غناء فردي ولا في كورس جماعي كي تمجد الحروب، على إيقاع مقتل العراقيين الذين لم يؤبنهم أحد، كأنها كانت عفيفة الصوت، ووفية لمن أحبّها ممن ذهبوا ومن تبقوا على ارض الرافدين . مصادر العطاء
غنت عفيفة اسكندر اللون البغدادي، الذي يبدو غائباً تماما اليوم ، عن مجمل الغناء العراقي، وقد احترمت نفسها مبتعدة عن تأدية ألوان المقام العراقي، ولم تعرف أطوار الغناء الجنوبي، وكثير من المختصين لا يعرفون سر ذلك الوضوح في أغانيها ذات اللحن السريع الذي ينظر إليه راهناً بمثابة نقلة نوعية في طبيعة الأغنية العراقية التي كانت سائدة آنذاك، فأقول انها قد نقلت اللون الغنائي السائد في الموصل ومناطق الشمال الى بغداد .. وعليه ، فهي ليست تأثيرات الأدوار المصرية، بل تلك المواويل التي تنحدر أطوارها من جغرافية الموصل الشمالية . لقد تضمنت أغانيها الأولى نكهة الشارع البغدادي، بعباراته الشائعة وبلاغته الخاصة وبنحته للجملة من لهجة موصلية صعبة باحالاتها وامالاتها لا يمكن أن تتداخل معها ابدا لهجات المناطق الأخرى؛ بيد أن أجواء بغداد المخملية في عقدي الأربعينات والخمسينات قد استوعبتها وحملت مزاجا متمدنا لا يكاد يفصل بين ما تفرزه الحياة، وما يستعيره الفن من تلك الإفرازات، فيتدثر بإيحاءاتها الثرية، ما أمكن له أن يتدثر دون أن يفقد تلك الصلة.
لقد شكّلت عفيفة ريادة من نوع ما في الأغنية العراقية المتمدنة التي تخلو من لواعج الجنوب او نواح الريف او بكائيات المقام .. وكأنها تمّثل رمز زمن ذهبي بكل خصبه الابداعي العراقي في الشعر والقصة والفنون التشكيلية ونجوم المسرح والغناء، فالمجتمع المدني العراقي بدأت ملامحه تتشكل للتو، وجاء ظهور التجمعات الثقافية: جماعة بغداد للفن التشكيلي، والفرق المسرحية الأهلية كفرقة الزبانية، مترافقاً مع ثورة الشعر الحديث، وحركة الرواد، ومع التجديد في القصة .. وعصرنة الحياة التي يبدو من الصعب تكرارها ثانية في نسيج شرائح المجتمع العراقي ونخبه، حيث لم تكن المسافة واضحة بين الملهى والمقهى، والصالة والصالون، فكلها كانت منتدى للحوار والحياة معاً.
عفيفة وغناء الشعر
ان علاقتها المتميزة مع أهل الأدب ليست سوى انعكاس طبيعي لعلاقتها بالأدب نفسه، فهي مغنية تكاد تنتمي لمغنيات العصر العباسي، في ما يتعلق بالثقافة الأدبية، رغم السمة العصرية التي طبعت تجربتها وسلوكها بطابع خاص، والبيئة التي حققت صلة نموذجية معها؛ فغنت قصائد رقيقة بدت متناسبة مع تجربتها ودللت على عمق اختياراتها من حيث اهتمامها بالجملة والمفردة، فغنت لشعراء بغداد كالعباس بن الأحنف في "أيا من وجهه قمر" وللعشاق الأندلسيين، كالخطيب الأندلسي الأعمى في "قيل لي قد تبدلا". لربما لم يسمع كثير من العراقيين قصيدة "يا عاقد الحاجبين" لبشارة الخوري، من فيروز كما سمعوها من عفيفة اسكندر، وربما بعدها، الأولية هنا غير ذات أهمية، صحيح أن تلك القصيدة لدى المغنية البغدادية تحولت إلى ما يشبه الطقطوقة، لكن الصحيح أيضاً أن البغاددة عندما يسمعون جملة "قتلتني مرتين" في الأغنية بلحن مختلف عن لحن الرحابنة الذائع عربياً، فهم يسمعونها بصرخة وانتفاضة من "عفاوي" لا بهمس ونبرة انسيابية وشفيفة في صوت السيدة فيروز اللبنانية الشهيرة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مجلة (هوية).. ملف خاص عن الشاعر خالد الأمين

الإفراط في استخدام الهاتف قد يصيب الاطفال بالهوس

اقــــرأ: عصا هارون

في بطولة شارك فيها أكثر من 60 متنافساً.. شطرنج الناصرية الأفضل

اقــــرأ: برعوشا – بيروسس

مقالات ذات صلة

رغم التحديات وقلة الدعم.. مسرح واسط يتعافى والقادم مسرح المرأة

رغم التحديات وقلة الدعم.. مسرح واسط يتعافى والقادم مسرح المرأة

 واسط / جبار بچاي أكد متخصصون بالشأن المسرحي في محافظة واسط أن المسرح في المحافظة بدأ يتعافى وينهض لبلوغ مرحلة ازدهاره في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يدعم هذا التعافي جمهور تواق لفن المسرح...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram