TOP

جريدة المدى > عام > هيغل والنازية الهتلرية

هيغل والنازية الهتلرية

نشر في: 16 مارس, 2015: 12:01 ص

كيف نفسر اتهام فلسفة هيغل السياسية، في الغرب وفي المانيا ذاتها احيانا، بانها تنادي صراحة بضرورة الدولة التسلطية الاستبدادية الشمولية وحتى الهتلرية؟ هذه الاتهامات حاول الدفاع عنها فلاسفة كبار مثل برتراند رسل( Bertrand Russell 1872-1970 ) وكارل بوبر

كيف نفسر اتهام فلسفة هيغل السياسية، في الغرب وفي المانيا ذاتها احيانا، بانها تنادي صراحة بضرورة الدولة التسلطية الاستبدادية الشمولية وحتى الهتلرية؟
هذه الاتهامات حاول الدفاع عنها فلاسفة كبار مثل برتراند رسل( Bertrand Russell 1872-1970 ) وكارل بوبر Karl Popper (1902-1994) فيما اتهمها آخرون بتمجيد الملكية البروسية مرة او الشوفينية الالمانية او العبودية الاوروبية او معاداة السامية وحتى العنصرية ومعاداة افريقيا واحتقار المرأة ومناصرة الحرب مرة بعد اخرى وكل خصم يحمل في اليد نصوصا هيغلية لاثبات ذلك.

 

فبالنسبة الى برتراند رسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" الصادر عام 1945 مثلا، ان اصول النزعة القومية الالمانية والايديولوجية النازية الالمانية فلسفية اولا وتجد منبعها في الفلسفة الالمانية وخاصة في كتابات الفلاسفة الالمان في القرن التاسع عشر مثل كانت وفخته وهيغل وشوبنهاور ونيتشه. الا ان هذه الرأي اثار انتقادات واسعة فيما اتهم رسل بالوقوع في فخ الكراهية البريطانية التقلدية للثقافة الالمانية لا سيما عدم وجود ما يثيت ان المنظرين النازيين عرفوا او قرأوا افكار هؤلاء الفلاسفة الذين قدمهم رسل بشكل سطحي في كتابه ذاك ما جعله يذهب الى اعتبار "شوفينيتهم القومية" بمثابة عامل اساسي من العوامل المسببة للحرب العالمية الاولى اصلا وملهما لظهور الهتلرية منذ تأسيسها في النصف الأول من القرن العشرين بزعامة "الفوهرر" الالماني أدولف هتلر (1889-1945) الذي اعتبره البعض مستلهماً ايضا لكل التراث الفلسفي الالماني "القومي" ومنها افكار فلسفية من نيتشه لا سيما مفهوم ارادة القوة عبر تفسير يجعل من منطق القوة معياراً رئيسياً وحيداً في الحكم والسياسة والفلسفة الاجتماعية وكذلك من هيغل، اذ يرى هؤلاء ان الايديولوجية النازية استلهمت العديد من اسسها وافكارها من مفهومه للدولة المتمحور حول فكرة تأملية (مثالية) تعتبر "كل ما هو عقلاني واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني". وهو مفهوم يمكن ان يفضي بتفسير انتقائي او آخر الى "تقديس" منطق القوة وعبادة الدولة وعلى التطابق عبر الدولة ما بين الأمة والقوة والبطل القومي. 

بيد ان هذه الاتهامات ليست موقفاً قسرياً او اعتباطياً تماماً. اذ بالفعل، هناك في بعض نصوص هيغل حول الدولة، مفاهيم وعبارات تتضمن صراحة او ضمناً ما يفيد بتقسيمها البشرية هرمياً الى اعراق متفاوتة القيمة الانسانية الملموسة او التاريخية وحتى الميتافيزيقية من جهة، وتأكيدها للبعد الشموالي المقدس بل الالهي للدولة ما يجعل غاية الدولة تبرر الوسيلة وبالتالي استبدادها احياناً، بسبب ديالكتيك هيغلي قائم على اقرار مطلق بقدرية الصراع والتناقض و"ضرورة" النفي او الشر اي ايجابيته تالياً، وعلى نظرة تعميم شمولي قسري تضحي بالخصائص الداخلية الملموسة لحساب "الكل" المجرد اي الدولة التي تبدو وحدها التجسيد الملموس للفكرة المطلقة حيث يتماهى العقل مع التاريخ والدولة، وكل ذلك على ارضية جرمانية آرية اوروبية تفوقية تقوم على الجمع بين العناية الالهية ودولة العناية، وفي تناقض مع المفهوم الدستوري الحديث للفصل بين السلطات ومفهوم «العقد الاجتماعي» القائمين على المشاركة الواعية والحرة للافراد في الكل الذي هو «الارادة العامة»، وفي تناقض كذلك مع مفهوم "سلام عالمي دائم" طرح مشروعه عمانوئيل كانت اسقط سلفاً اية ضرورة اخلاقية للحرب حتى اذا كانت "مقدسة" وحتى اذا اقتضاها اي ديالكتيك كان.
وبداهة لا يمكننا نسيان تلك المساعي المحمومة التي كرسها قادة الحركة النازية وموظفوها الفلسفيون في تحقيق نزوعهم الى تأصيلها ايديولوجيا في الفلسفة السياسية الالمانية الاقدم لاثبات انها بنت شرعية الى هذا الحد او ذاك للثقافة القومية الالمانية بهدف زرع فكرة تقديس الدولة في رأس المواطنين الالمان كما هو الحال مع الافكار السياسية لنيتشه وهيغل وماكس ويبر وحتى الاشتراكي لاسال وغيرهم. فقد التقطوا من ماكس ويبر مثلا دعوته الى الطاعة المطلقة للرؤساء الذين سماهم بأبطال الامة، ومن نيتشه دعوته الى اقامة دولة دكتاتورية، ومن الرومانتيكيين الالمان عموما حلمهم بقيام امبراطورية جرمانية مقدسة يحكمها قضاء وقوانين مستلهمة جميعا من خصوصية الروحية الالمانية، ومن ايكارت امنية اكتشاف رئيس يخرج من بين صفوف الشعب ويعمل من اجل الشعب ويعرف التحدث الى الشعب، ومن مفكرين آخرين مثل مولر فان دين بروك وستيفان جورج القول بضرورة (حرب مقدسة) من اجل (انقاذ الحضارة) يقودها زعيم مطلق العزيمة سموه بـ(الفذ) او (المنقذ). ومن شبنغلر اعلانه ان الانسان حيوان مفترس وان مبرر وجود الدول هو شن الحرب"، ومن توماس مان الدعوة الى جعل (الثقافة الجرمانية) بمنزلة (نقيض للغرب كمفهوم).
الامر كان كان اكثر تعقيدا مع فلسفة عظيمة النفوذ في المانيا واوربا كالفلسفة الهيغلية. فخلال حقبة الحكم الهتلرية ما بين 1930 و1945 قام "القانونيون الهيغليون الجدد"، وهم جماعة اكاديمية تعرف ايضا باسم مدرسة "غوتنغن" الهيغلية، ببذل جهود بحثية مثيرة سعياً لاقناع هتلر وكبار منظري العقيدة النازية بان الفلسفة الهيغلية تدعم نظريتهم الاشتراكية القومية وليست ضدها كما كانوا يعتقدون من قبل، والتأكيد والتدليل على الاستمرارية التاريخية بين المثالية الهيغلية والسياسة الشمولية للرايخ الثالث. ولعل ابرز اعضاء تلك الجماعة رائدها يوليوس بيندر Julius Binder (1870-1939)، وثلاثة من تلاميذه بين عامي 1929 و1933، وهم كارل لارينز Karl Larenz (1903-1993) وغيرهارد دلكيتGerhard Dulckeit (1904-1954) ومارتن بوس Martin Busse (1906-1945).
لكن كل ذلك لا يمكن ان يفضي بأي حال الى اعتبار الفلاسفة الذين اقتبست او استلهمت النازية بعض افكارهم ومنهم هيغل مسؤولين ادنى مسؤولية عن الهتلرية وجرائمها. بلا شك، كما كتب الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي منذ الأربعينات، ان الفلسفة الهيغلية هي مصدر "كل ما قدم من كبير في الفلسفة منذ قرن" فيما رأى استاذنا المفكر الفرنسي الراحل جاك دونت أن الهيغلية هي الفلسفة التي "غيّرت مصير العالم". الا ان هذه الاستنتاجات تشير الى المكانة الاستثنائية للفلسفة الهيغيلية في نسق الفلسفة التأملية الغربية بما فيها من الموسوعية والخصب والتعقيدات وحتى التناقضات احيانا اكثر من اي شيء آخر. 
بكلمة اخرى، وكما ان المفهوم الهيغلي عن الاستبداد الشرقي او الاستبداد الاسلامي قسري واعتباطي، فان اتهام الفلسفة الهيغلية بعلاقة ابوة مع النظرية النازية وغيرها من ايديولوجيات او نعرات، قسري هو الآخر واعتباطي في رأينا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram