( 10 )
القسم الأول
خلال أربع سنوات أو يزيد من عمر وزارة التعليم العالي في ظل قيادتها السابقة، كنت أستغرب حين ألمح من مسؤوليها ومسؤولي معظم الجامعات، ولاسيما جامعة بغداد، المواقف السلبية وربما المعادية، المعلنة وغير المعلنة، من التخصصات الإنسانية ود
( 10 )
القسم الأول
خلال أربع سنوات أو يزيد من عمر وزارة التعليم العالي في ظل قيادتها السابقة، كنت أستغرب حين ألمح من مسؤوليها ومسؤولي معظم الجامعات، ولاسيما جامعة بغداد، المواقف السلبية وربما المعادية، المعلنة وغير المعلنة، من التخصصات الإنسانية ودراساتها. لكن استغرابي قد أخذ يزول وأنا أرى تواصل جلّ هذه المواقف في عهد الوزارة الجديدة، لأستنتج أن ذلك إنما هو عيب مستديم في نهج شبه ثابت، ولا أمل في تجاوزه، من الوزارة السابقة والوزارة التالية، وهو يأخذ صوراً أشد وأكثر صراحة ليكون، برأيي، أحد عوامل الخلل الذي أصابها ويصيبها. الواقع أن إحدى أكثر مؤشرات التخلخل الذي وسم ويسم الوضع الأكاديمي خلال السنوات الخمس الأخيرة هو هذه المواقف السلبية، وربما المعادية كما قلنا، للدراسات الإنسانية من مسؤولي التعليم العالي وكبار إدارييه وبعض رؤساء جامعاته، لما لها من تداعيات وتأثيرات تتخطى حدودها إلى كل شيء في مسيرة العمل الأكاديمي، وكما سنوضح هذا في مقالنا والمقال التالي. وقد تمثلت هذه المواقف، من جملة ما تمثلت فيه، في الممارسات المختلفة، التي يجب أن نعترف أن بعضها، وبعضها فقط، يُمارَس مع عموم التخصصات، وليس مع الإنسانية فقط، ومنها:
• تضييق فرص التطوير والتحديث والتجديد.
• التضييق على طلبة دراساتها العليا.
• عدم تشجيع إقامة المؤتمرات العلمية.
• ضعف وسائل دعم المشاركة في المؤتمرات العلمية، إن لم نقل عرقلتها أحياناً.
• محدودية الاهتمام بالدوريات العلمية، ومحدودية الدعم المادي لها.
• تضييق الزمالات والبعثات بمختلف مستوياتها.
• تضييق الرحلات البحثية للأساتذة وطلبة الدراسات العليا، وربما إيقافها أو منعها.
وغير ذلك كثير، وكأنّ لسان حال مسؤولي التعليم العالي ورئاسات جامعة بغداد وجامعات أخرى يقول: ليس من فائدة في الدرسات الإنسانية مثل فائدة الدراسات العلمية التطبيقية. وهو ما يحسّه منتسبو الكليات الإنسانية، ولاسيما اللغات والآداب والفنون. وهنا نجد أن الموضوعية والعلمية والأكاديمية، ولكن المقرونات بالوعي والرشد وعمق النظر وبعده وسعته، يجب أن تجعلنا نقرّ بالحقائق الآتية:
الحقيقة الأولى: ليس هناك من تخصص علمي، أيّاً كانت طبيعته وهويته، غير مهم، وإلا ما وُجد أصلاً، أو ما تواصل وجوده وأقرّته بلدان العالم وجامعاتها ومراكز أبحاثها.
الحقيقة الثانية: تكتسب بعض التخصصات أهمية أكثر من تخصصات قد تقلّ أهميتها في مراحل وظروف معينة، لتفقد الأولى بعض أهميتها وتكتسب الأخيرة أهمية أكثر في مراحل وظروف أخرى. ولهذا يزداد الاهتمام، في بلدان العالم وجامعاتها، بتخصصات بعينها أكثر منه بتخصصات أخرى في بعض الأوقات والسنوات والعهود، وقد يقل هذا الاهتمام بالتخصصات عينها في أوقات وسنوات وعهود أخرى. ولكن ما انتهت أهمية أي تخصص وانتهت الحاجة إليه، إلا في النادر جداً.
الحقيقة الثالثة: بين التخصصات جميعاً لا تكاد تتغير أهمية التخصصات الإنسانية، إلا بدرجات محدودة، ببساطة لأنها، فلسفةً ولغةً وأدباً واجتماعاً وتربيةً وتاريخاً وفناً وإعلاماً.. إلخ، تتعلق أولاً ببناء الإنسان قبل البلد، وثانياً لأنك في الوقت الذي تستطيع أن تغطّي الحاجة أو النقص في أي تخصص علمي، طباً أو صيدلةً أو هندسةً أو غيرها، باستجلاب العنصر الأجنبي بشكل مؤقت أو شبه دائم أو حتى دائم، بل ربما حتى بالتدريب غير الأكاديمي بالنسبة لبعضها، فإنك لا تستطيع أن تفعل ذلك بالقدر نفسه مع التخصص الإنساني، وثالثاً لأن المتخصصين في العلوم الإنسانية هم الذين يمتلكون الرؤية الأوسع والنظر الأبعد والفهم الأكثر واقعية للأمور، ورابعاً لأنه في الوقت الذي يستطيع فيه المتخصّص الإنساني فهم الحاجة للتخصصات العلمية، فإنه لصعب على المتخصص العلمي فهم الحاجة للتخصصات الإنسانية، ولهذا نحن لا نجد بلداً في العالم، غير العراق، ولا جامعات في العالم، غير جامعات العراق في هذا العهد، قد استغنى عن التخصصات الإنسانية ولا قلل من الاهتمام بها، مهما تطور هذا البلد وتطورت هذه الجامعات، وأمثلة بلدان، مثل اليابان وأمريكا وبلدان أوروبا، وجامعاتها واضحة.
هذا يقودنا إلى محاولة تعليل هذه الظاهرة أو الحقيقة، بالزعم الذي أعتقد أن البلدان المتقدمة وغير المتقدمة قد وعته، بأن صاحب التخصص العلمي التطبيقي المادي، لأنه، في ممارسة تخصصه، لا يمدّ نظره، في الكثير من الأحوال، إلى ما هو أبعد من حدود تخصصه وعالمه المادي الملموس، غالباً ما يعجز عن فهم كل ما هو خارج حدود ذاته هو وشخصيته، وتخصصه، واهتماماته. ومن هنا هو لا يستطيع أن يفهم حتى أبعاد الأمور إن لم تكن ماديةً أو ملموسة ويراها رؤية حقيقية أو مجازية، ويرى نتائجها الآنية والسريعة والمباشرة، مما يتوفر في التخصصات الإنسانية، بل هو لا يستطيع غالباً فهم الحاجة للكثير من هذه الأمور، لأنه يقضي حياته يتعامل مع المادة والملموس والتجربة وما إلى ذلك. بعبارة أخرى هو لا يستطيع، إلا بصعوبة أو حين يكون واسع الثقافة والتجربة، فَهْم ما هو خارج حدود تخصصه العلمي التطبيقي، وعليه يصعب عليك في هذه الحالة أن تقنعه بأهمية الفن والخيال والأدب والتاريخ وعلوم الاجتماع والفلسفة.. وما إلى ذلك. وهكذا، فلا يكاد يعترف الصيدلي بغير الدواء والتركيب الكيميائي والتفاعلات الكيمياوية، والزراعي بغير النبات والحيوان، والطبيب بغير الجراثيم وما يقاومها والجسد وأسراره، والمهندس بغير البناية والمخطط وأنبوب النفط والآلة. فكل هؤلاء وأمثالهم لا يستطيعون الاعتراف بغير المادي والمنظور والملموس والمحسوس والمثبَت بالتجربة المادية، والنتائج العيانية المباشرة. وعليه هم، حتى حين يكونون من المرونة بحيث يخرجون عن حدودهم الذاتية والخاصة، لا يفهمون أهمية أي شيء وفائدته إلا ما انطبق عليه هذا، فهم يفهمون أهمية البقّال، والبنّاء، والبنجرجي، والكهربائي، والخادم، والطباخ وأمثالهم، لكنهم لا يعترفون بفائدة المغنّي والفيلسوف ولاعب الكرة والأديب والناقد والمؤرخ والصحفي وأشباههم، بل لا أبالغ إن قلت إن الكثيرين منهم يسخرون من هؤلاء وتخصصاتهم ويعتبرون ما يقومون به مضيعة وقت.
هنا، لنكون منصفين نقول إن كل ذلك إنما ينطبق على المتخصصين في العلوم التطبيقية الذي يأبون، في تعاملاتهم الحياتية والوظيفية، الخروج من دوائر تخصصاتهم العلمية تلك، وهم على أية حال وبظننا، الغالبية في بلدان الشرق التي يفتقد أهلوها عادةً بعد النظر وسعة الأفق. بل لا نبالغ إن قلنا إن الكثير منهم يتعالوْن حتى على التخصصات العلمية التطبيقية الأخرى إلا بوصفها ذوات فوائد محدودة أو أقل من تخصصاتهم، وهو في الواقع ما يبدأ ينزرع من أول توجه علمي لهم. فيتذكر الكثير منّا النظرة الدونية التي ينظر بها طلبة الفرع العلمي إلى طلبة الفرع الأدبي أو التجاري في الدراسة الإعادية، وكيف يبدأ طلبة التخصصات الطبية مثلاً، بعد ذلك، ينظرون دونياً أيضاً إلى التخصصات العلمية غير الطبية، وكيف يبدأ بعض أصحاب هذه التخصصات الطبية ينظرون إلى تخصصات طب النسائية وطب الإسنان مثلاً. وذلك كله إنما يقود إلى خلل في النظرة إلى العلم والجامعة والأكاديمية عموماً، وفي فهمها، ثم التعامل الخاطئ معها، وهو بعض ما يسم وضع التعليم العالي في العراق الآن مما سنستكمله في القسم الثاني من هذا المقال.
يتبع