أفكِّرُ أحياناً بنزعة حبّ السّيطرة dominance المُتمكّنة من بعض النّاس الّذين تعاملْتُ معهم فتبدو لي مسألةً مفتاحيّةً و على جانبٍ عظيم من الأهمّية في تفسير جوانب مختلِفة من الوجود الإنسانيّ : كانت صراعاتي الداخليّة خلال سنوات مُراهقتي نتاجاً مُباشراً
أفكِّرُ أحياناً بنزعة حبّ السّيطرة dominance المُتمكّنة من بعض النّاس الّذين تعاملْتُ معهم فتبدو لي مسألةً مفتاحيّةً و على جانبٍ عظيم من الأهمّية في تفسير جوانب مختلِفة من الوجود الإنسانيّ : كانت صراعاتي الداخليّة خلال سنوات مُراهقتي نتاجاً مُباشراً لتحويل نزعتي في السّيطرة نحو داخلي و جعْلِها أفكاراً مُنتِجة ، و كنتُ على الدّوام أملُكُ اتّجاهاً طبيعيّاً - مثل فلاكس - في النّظر إلى كُلّ الفنّانين و المُفكّرين بكوْنهم جمهرةً من الإمّعات الجّبناء ، و كنتُ في طفولتي مقاتلاً ممتازاً و قائداً بالفطرة رغم كراهيّتي المفرطة للنشاطات الرّياضيّة ، و ربّما كنتُ سأتطوّرُ إلى رجلٍ من رجال الفعلِ و الحركة لو كنتُ عشتُ في بيئةٍ مختلفة ، و كان من نتائج تحويلِ سيطرتي نحو داخلي أن صرْتُ شخصاً هادئاً ذا نزعةٍ مُعتدلة وَغير ميّالٍ لِلقتال ، و كان يبدو عليّ أحياناً أنّني أتوافقُ مع الأعمال العاديّة و كان رؤسائي يُسرّون لذكائي الّذي كان ينبؤُهم بأنّني سأرتقي مراتب العمل بسرعةٍ فائقة و لكنّ السّيطرة المكتومة في داخلي كانت تمنعُني من التّوافق مع الأعمال العاديّة إلى جانب احتقاري لمن اعمل معهم من الّذين كانوا يعبّرون عن ردّة فعلهم تجاهي في هيئة كراهيّة طبيعيّة ، و من الواضح أنّ رغبتي المُضمرة في السّيطرة هي الّتي تفسِّرُ علاقتي المعقّدة مع بيل هوبكينز ، و هي ذاتُها الّتي جعلتْني أجدُ في فلاكس شخصيّة ممتعة : فقد كان كلٌّ منّا يسلّي الآخر بلعبة الإرادات المُتعاكسة و كأنّنا كنّا لاعبَيْن مُتنافسيْن في لعبة ملاكمة ، و في كلّ المرّات الّتي دقّقْتُ فيها بحياة فلاكس كان يبدو لي مؤكّداً أنّ شخصيّتي كانت ستغدو نسخةً من شخصيّته لو حصل و نشأتُ في بيئةٍ مثل بيئته أو لأبوين من الطّبقة المتوسّطة . كانت أعراض السّيطرة الّتي تتحكّمُ بجوانب خطيرة في السّلوك الإنسانيّ هي السّبب وراء اعتباري كتاباتِ شو مُكتنزةً بمعاني أكبر بكثيرٍ من المعاني الّتي يتناولُها الكتّابُ الآخرون في كتاباتهم : فقد كانت أغلب أعمالِ شو تحكي عن موضوعة تصادم الإرادات ، و ثمّة مسرحيّةٌ له بعنوان ( ميجور باربارا Major Barbara ) تحكي بطريقة مثيرة عن تصادم بين شخصيْن أحدهما يميلُ لممارسة نزعته السلطويّة في السّيطرة على الآخرين بينما يعملُ الثّاني على تحويل نزعة السيطرة لديه نحو داخله و على نحْوٍ تستحيلُ معه نمطاً من التطلّع الذهنيّ المفرط و الصّارم ، و من المثير إلى أبعد الحدود قراءة ذلك الوصف الدقيق للشخص الثاني الّذي يكتبُ عنه شو قائلاً " فعلَ الوهنُ العقليُّ المزمنُ فعلاً قاسياً في بُنيانه الجسديّ بطريقةٍ مرئيّة بالغة الوضوح " ، و لحسْنِ حظّي كانت صحّتي ما تزالُ سليمةً باستثناء بعض المتاعب في المعدة ، و لكن بدا لي واضحاً أنّ صحّتي لن تطولَ بها السّلامةُ فيما لو دام التوتُّرُ المزمن النّاجمُ عن فشلي في توكيد قدراتي الذّاتيّة لفترةٍ طويلة .
كان من المُفترض أن تغادر جوي إلى كندا بعد شهورٍ قليلة لكي تتزوّج من خطيبها الّذي ينتظرُها هناك و كانت كلّ الاحتمالات تميلُ إلى ترجيح كفّة مُغادرتها لذا لم تكن ثمّة فائدةٌ أمامي من التّخطيط لفكرة اجتذابِها ، و لكنّ علاقتي بها آنذاك كانت بلغت حدّاً سمح لي في أدنى تقديرٍ أن أفكّرَ بالحديث معها حول إمكانيّة التخلّي عن زواجها الموعود في كندا ، و عندما كنّا نعبرُ فيكتوريا بارك في الظّلمة الحالكة ذات يومٍ سألتُها عن الكتب الّتي بحوزتِها في ليستر فعدّدتْ لي : قصائد ييتس و مسرحيّاتهُ ، و أعمال بروست بالفرنسيّة ، و أعمال فيرجينيا وولف ، و رواية يوليسيز لِجويس ، و قلّما أبْدَت معظمُ الفتيات الجذّابات اللواتي عرفتهنّ من قبلُ أيّ اهتمامٍ يذكرُ بالأدب ، أمّا من كانت مهتمّة بالأدب من الفتيات فلم تكن جذّابةً على الإطلاق ، و حتّى بيتي الذكيّة للغاية كان ذكاؤها براغماتيّاً مباشراً و لم تكنْ تشاركُني أبداً اهتمامي بعالم الأدب و الأفكار بعامّة ، و بان واضحاً لي تماماً أنّني لو نويْتُ أن تُشاركَني فتاةٌ ما حياتي فستكونُ جوي بالتأكيد هي أكثرُ الفتياتِ اقتراباً من صورة المثال الّذي أبحثُ عنه .
رحلت جوي لقضاء عطلةِ أعياد الميلاد وَ مضَت إلى ساوثهامبتون لتودِّع خطيبها الرّاحل إلى كندا ، و حينما عادت أدركْتُ أنّ علاقتها بزوجها المقبل قد وهنت إلى حدٍّ بعيد خلال العام الّذي قضتْهُ و هي تدرسُ الفرنسيّة في فرنسا و ساعدتْ علاقتُها بي في إدراكها لطبيعة الوهن الكبير الّذي شابَ علاقتها بخطيبها و فضّلت أن تتجنّب الدخول في متاهة الإختيار بيني و بيْنه و لكنّني كنت متيقِّناً من أنّها لابدّ مضطرّةٌ إلى حسم خيارِها في وقتٍ ليس بالبعيد حتماً .
حالَما انتهت أعياد الميلاد طلبني مدير المحلّ إلى مكتبه و ذكّرَني بحقيقة أنّني كنتُ قُبِلْتُ للعمل بوظيفةٍ مؤقّتة كما أشار إلى وعدي بارتداء بدلةٍ مناسبةٍ أثناء العمل - و هو الوعْدُ الّذي لم أفِ به - و سألني عمّا يُناسِبُني من خيار : أن أشتري بدلةً مناسبة و أبقى أعملُ في المحلّ أم أتركهُ و أرحل ؟ و كان قراري هو تركُ العمل في المحلّ و بخاصّة أنّني كنتُ أعدُّ الترتيبات آنذاك لعودتي إلى لندن . أمضيْتُ الأيّام التّالية في طلاء الشقّة ، و ذات يومٍ حضرت جوي للشقّة و أعدّت لي الطّعام ، و عندما حان وقتُ مُغادرتِها طلبْتُ إليْها أن تبقى معي و أنا مدرِكٌ تماماً أنّ هذا الأمرَ سيكونُ مُحرِجاً لها و لكنّها وافقتْ رغم شُعورِها بالتعاسة و الذنب ، و قبْل أن ننام قلتُ لها بحسْمٍ " أخبِريني بصراحة ، هل تهتمّين بي أم لا ؟ إذا لم تكوني تهتمّين بي فقوليها بوضوحٍ " و هنا صمتتْ جوي لفترةٍ طويلة و قالت أخيراً بصوْتٍ هامسٍ لا يكادُ يُسمَع " نعم ، أهتمُّ بك " ، فأجبتُها على الفور " إذن من الأفضل لك أن تأتي معي إلى لندن و تفسخي خطبتَكِ في الحال " و غرقْتُ عندها في النّوم و أنا ممتلِئٌ سعادةً بعد أن صار أمري مع جوي واضحاً وَ صريحاً . حينما استيقظْتُ صباح اليوْم التّالي كانت جوي قد غادرت إلى غرفتها لتبديل ملابسها قبل الالتحاق بالعمل في محلّ لويس ، و قبْل أن ينْتصف النهارُ مضيْتُ إلى المحلّ للقاء جوي و مُشاركتها شرْب القهوة أثناء فترة الإستراحة و كانت تناتبُني آنذاك ذات المشاعر الّتي اختبرْتُها في شهور زواجي الأولى من بيتي : فقد كان ثمّة إحساسٌ أنّني لن أكونَ وحيداً بعد اليوْم ، و بالرّغم من أنّني كنتُ قبّلتُ جوي مرّة واحدة فحسب لكنّني كنتُ أتصرّفُ معها و كأنّنا مُتزوّجان ، و عندما أبديتّ لها اقتراحاً بضرورة الكتابةِ إلى خطيبِها و إخباره بحقيقة الأمر أجابت على الفوْر : نعم ، يجبُ أن أفعل هذا ، و اتّفقْنا أن تأتي معي إلى لندن ، وَ عثرْتُ آنذاك على عملٍ في مصنعٍ للأحذية ، و كانت أجورُ العمل فيه جيّدة و لكنّ العمل كان شديد الإنهاك و في نهاية يوم العمل كان جسدي يئنُّ من الرأس و حتّى القدميْن .
كان لقائي مع جوي نقطة مفصليّة عظيمة الشّأن في حياتي : كنتُ أشعرُ معها على الدوام بأّن حياتي قد تكاملتْ و باتت أكثرَ ثراءً بعد أن كانت ممزّقة الأوصال منذ تركي للمدرسة ، و كنتُ قبل أن أعرفَ جوي أترك مصيري لمقادير الظّروف تعبَثُ بها كيفما شاءت و كان الإستثناءُ الوحيد من مصيري العبثيّ هو الكتابةُ الّتي كانت مَعْلماً من معالم شغفي و إرادتي ، أمّا الجوانبُ الأخرى من حياتي فكانت تعبيراً عن ضجرٍ مستمرّ من غير نهاية ، و مع أنّني كنتُ شخصاً على شيٍء من الغلظة و كان مُقدّراً لي قلبُ الطّاولة على كلّ شيء و إفسادِ كلّ الأمور لكنّني كنتُ متفائلاً للغاية و راسخ القناعة بما قاله ( إزرا باوند ) يوماً ما :
ما يملؤكَ شغفاً هو وحده الّذي يبقى
و الأشياء الأخرى محْضُ تفاهة،،،،،
ما يملؤكَ شغفاً هو ما لَنْ يتسرّبَ من بين أصابعك ،،،،،
ما يملؤكَ شغفاً هوَ ميراثك الحقيقيُّ ،،،،،
و كنتُ على درايةٍ أيضاً بِما كتبه أودن :
أن نكون محْبوبين يعني أن نقترف الأخطاء ،،،،،
نتعاملُ مع حياتِنا البليدة بغلاظة،،،،،
قد نُعاني القليلَ جدّاً أو الكثير جدّاً،،،،،
لكنّنا نُدقِّقُ كثيراً في تفاصيل حبّنا الأنانيّ ،،،،،
كنتُ جرّبْتُ أن أكون عالماً من قبلُ ، ثمّ انغمسْتُ في عالم الكتابة لأنّني أردْتُ الهروب من إحساسي الدّائم بكوْني مُخطِئاً بالَإضافة إلى شُعوري بالغِلظة و الغباوة أنّى نظرْتُ حولي : فقد كان شغفي بالكتابة مُحاولةً منّي لتثبيت أساسٍ من النّظام و الانضباط حتّى لو في منطقةٍ صغيرة من الوجود الإنسانيّ ، و يبدو دائماً أنّنا في صراعٍ أبديٍّ بين ما نبتغي أن نكون و بيْن الحقائق الصّلبة لحياتِنا الواقعيّة حتّى ينتهي الأمرُ بكثيرٍ منّا إلى قُبولِ نوْعٍ من المُساومة المقبولة ، أمّا أولئك الّذين يصرّون على التمسّك بتصوّرهم الخاصّ عن الحقيقة على الرّغم من حقائق الحياة الصّلبة فغالباً ما ينتهي بهم الأمر في المصحّات العقليّة حيث يصرّ واحدهم على الصّراخ : أنا يوليوس قيصر . كنتُ أتساءلُ على الدوام في ذروة لحظات اكتئابي العنيف : كيف سينتهي بي الأمرُ لو ظلّ الواقعُ على صلابته و لم يستجِبْ لمُحاولاتي المستمرّة فرض لغتِي الخاصّة عليْه ؟ متى تأكّد بنيامين روبرت هايدون ( صديقُ كيتس ) من أنّه ليس ذلك العبقريّ المُعجزة الّذي سيقفُ العالم مشدوهاً لعظمة أعماله ، و أنّهُ في حقيقة الأمر ليس أكثر من رسّام ردئ ؟ إنّ للمخلوقات البشريّة وسائلها الماكرة في الهروب من الحقيقة و لطالما راقبتُهم لسنواتٍ عدّة و هم يبتكرون الكثير من هذه الوسائل و بلغ الأمرُ حدّاً دفعَني إلى مُحاولة كتابة كتابٍ عن هذه الموضوعة بعنوان ( طُرُق و آليّات الخداع الذاتيّ البشريّ ) .
بدت علاقتي مع جوي العلاقة الإنسانيّة الوحيدة الّتي شعرْتُ بتناغُمِها مع عالمي الدّاخليّ و مع الأمور الّتي أحببْتُها غاية الحبّ : فقد قبلَتْ بي جوي على خلفيّة تقديرها الشخصيّ الخاص لي و لمواهبي مثلما يتقبّلُ الطّفلُ الصّغيرُ أباهُ و بخاصّة بعد أن جعلت منّي حياتي الزوجيّة مع بيتي لمدّة سنتيْن متوتّراً للغاية و متحسّساً ازاء أيّة لفتةٍ تستحثُّ توتّري ، و هنا لابدّ لي من الاعتراف بأنّ حياء جوي و حُشمتها تجاه العلاقات الجنسيّة شكّل مصدر راحةٍ عميقةٍ لي بعد أن دفعَني فشل زواجي من بيتي إلى الشّعور المزمن بِعَوَقي الجنسيّ أو على الاقلّ بمُعاناتي من شكلِ من المرض الجنسيّ ، و كما نعلمُ فإنّ الإخفاق بذاته يمثّلُ مصدراً للشدّ العصبيّ المُنهك تماماً مثل معاناة شخصٍ ما من التاتأة : فكلّما انشغل أكثر بتأتأتهِ ساءت حالتهُ أكثر من ذي قبلُ ، و الأهمّ من كلّ أمرٍ آخر أنّ جوي جعلتْني أتحرّرُ من الانشغال المرضيّ بإثبات كفاءتي الذكوريّة .
وجدْتُ نفسي بعد بضعة أسابيع من العمل في مصنع الأحذية قد مللْتُ ليستر و نلْتُ منها الكفاية ، و لم يكن أمامي دافِعٌ يدفعُني للانتقال إلى لندن كما نضب خزيني من أيّة نوستالجيا للعودة إلى حيّ سوهو أو عرض مسرحيّة ( برعم الزّهرة المعدنيّة ) ، و مع أنّ حياتي آنذاك كانت خلوّا من أيّ ثراء يمكنُ له أن يُرضيَني على نحْوٍ مقبول لكنْ لم يكن ثمّة بديلٌ أمامي سوى المُضيّ بعزيمةٍ في الحياة .