الصورة التي يقدمها سامي ميخائيل عن الصحن الداخلي للبيوت البغدادية هي العقدة الأولى للسجادة التي سيحيكها لنا سامي مع بطلته فكتوريا. الصحن الداخلي هناك هو مسرح الحياة الذي تدور عليه حياة عائلة كثيرة الأفراد، كل شيء يدور هناك، هنا تطبخ ربات البيوت، ويغسلن الملابس، هنا تجلس العائلة مع بعضها، تتحدث، أو تسهر في ليالي الصيف المقمرة. ولكن هنا أيضاً، تنشط أقدم طريقة لنشر الأخبار، فمن فم الى آخر تدور الإشاعات وتنقل بسرعة البرق. هنا أيضاً تسخن الأمزجة بسرعة. كل إهانة، كل ولادة جديدة، كل نزاع، كل نظرة حب، كل لمسة، تُلفت النظر بسرعة. السجادة الجميلة البغدادية التي فرشها لنا سامي تحولت إلى بساط ساحر، ليس بسبب جمال النسيج وأصالته الذي حاك قصته منه وحسب، بل أكثر من ذلك، بسبب كل التفاصيل الصغيرة، التي وضعها بعضها إلى جانب بعض، تلك هي قوة رواية فكتوريا، فهي التفاصيل الصغيرة هذه (وأكثرالناس يميلون إلى طمسها، خصوصاً أولئك الذين يخجلون من ماضي يعتقدون أنهم انتهوا منه بسرعة) التي تجعلها أكثر إقناعاً في حديثها عن التفاصيل الكبيرة، كل تلك الوقائع والأرقام والأحداث "الحيادية" و"الباردة"، التي هي من شأن المؤرخين وعلماء الاجتماع عادة.
السماء لا تضيء بالنجوم الكبيرة وحسب، بل بملايين أكثر منها من النجوم الصغيرة. أعتقد، انه الألماني برتولد بريشت الذي قال تلك الجملة، هناك في سماء بغداد التي يصفها سامي ميخائيل بدقة لدرجة أننا نشعر بها فوق رؤوسنا، مثلما شعرت بها وتحركت تحتها صديقتنا فكتوريا، في السماء المضيئة هذه، ولولا الضوء الذي زودتنا به التفاصيل الصغيرة هذه، حياة العائلات التي لا يترك سامي ميخائيل صغيرة أو كبيرة من يومياتها ولا يصفها (كم أحسدك على هذه الذاكرة يا سامي!)، بنظافتها وبقذارتها، بسموها وهبوطها، بتعاليها وذلها، كل ما يرينا خط البورصة اليوم، أقول: لولا تفاصيل"بورصة" حياة العائلات اليومية هذه، لما تعرفنا على الضوء الآخر الذي انتشر في سماء بغداد آنذاك ولما عرفنا التفاصيل الكبيرة التي دارت خارج ساحات البيوت البغدادية التقليدية، خارج الحوش. سامي ميخائيل يروي قصة فكتوريا وأمام عينيه بانوراما حدث تاريخي كبير: انهيار الإمبراطورية العثمانية، دخول الجيش البريطاني واحتلال بغداد، تأسيس الدولة العراقية الجديدة وبعدها: تأسيس دولة إسرائيل. كل ذلك يتجلي أمامنا في علاقته المباشرة وغير المباشرة مع القضية "الكبرى" التي أخذتها فكتوريا على عاتقها. فكتوريا التي عاشت كل تلك الأحداث كانت معنية بقضية واحدة قبل كل شيء، قضية واحدة تخصها فقط، قصة حبها لابن عمها "رافائيل"، رافائيل الذي يشعر بالاختناق في عالم العائلة الضيق فيتمرد عليه، ويقرر الانطلاق للعالم الحديث، تلك هي معضلته (لكن معضلة فيكتوريا أيضاً)، يطلب من فكتوريا أن تظل سجينة في عالم العائلة الضيق، أن تظل مخلصة لتقاليد وعادات عائلتها. ربما وافقت فكتوريا على مضض في المرحلة الأولى من عيشها مع رافائيل بسبب حبها له، أو أكثر بسبب أملها، أن تتغير الحياة ويتغير هو معها أيضاً، لكن عندما يهاجر رافائيل ويتركها مع أطفالها، تكافح الجوع والبؤس، تبدأ فكتوريا بالكفاح لانتزاع خصوصيتها، استقلالها، ذاتيتها.
هجرة فكتوريا مع عائلتها إلى إسرائيل، كانت بالنسبة لها، بداية الانطلاق لتأسيس عالمها الخاص، فمهما قيل عن هجرة اليهود إلى إسرائيل، إلا أن أمراً واحداً يظل ثابتاً، بقدر ما جاءت تلك الهجرة بسبب بواعث مصيرية جماعية، بقدر ما كانت بالنسبة لعدد كبير من المهاجرين أيضاً، قضية لها علاقة بالحرية، بالبحث عن ملاذ جديد لتأسيس عالم خاص. فكتوريا هي أحد هؤلاء، العالم مشغول بالأمور الكبيرة من أمامها، وهي مشغولة بالقضية الخاصة بها، حتى في إسرائيل، ظلت تكافح في سبيل قضيتها تلك - وهي على حق في ذلك، فهل هناك قضية أكبر من قضية القلب وشؤون -، ألم تنتصر فكتوريا في النهاية؟
يتبع
*القيت الكلمة في حفل تكريمي للكاتب سامي ميخائيل في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا بمناسبة صدور طبعة خاصة بالإنكليزية لروايته "فكتوريا"