لم تتخلص السينما العراقية من عيوب السينما العربية، المتعلقة بمشكلات (ايديولوجية)، و(فنية) تركيبية من ناحية، ومن سوء (التخطيط)، وفقر (الانتاج) وعثراته من ناحية أخرى ولو اخذنا الجانب الاساسي في تجربة (صناعة الفيلم) لوجدنا اسماء اخراجية قليلة، تدر
لم تتخلص السينما العراقية من عيوب السينما العربية، المتعلقة بمشكلات (ايديولوجية)، و(فنية) تركيبية من ناحية، ومن سوء (التخطيط)، وفقر (الانتاج) وعثراته من ناحية أخرى ولو اخذنا الجانب الاساسي في تجربة (صناعة الفيلم) لوجدنا اسماء اخراجية قليلة، تدرك اهمية اللغة السينمائية، وتتمتع بقدرات ابداعية، وموهبة خاصة، وتفيد من آفاق اخراجية عالمية، حين المباشرة بتنفيذ السيناريو، واختيار كادر الفيلم من مصورين وحرفيين وممثلين لهم حضورهم التعبيري المتطابق مع رؤية المخرج. هذه العمليات المترابطة، يكون مآلها (المختبر) الخاص بالجانب الصناعي الحاسم في اظهار الفيلم كما ينبغي له ان يكون وغالباً ما تضيع الحلول الابداعية التي بذلت تحت وطأة (تقنيات صناعية) قد تكون غائبة لدينا بالتمام، والكمال..!
واجهت حركة السينما في موجة (العراق الجديد) الثقافية، تحديات من نوع مغاير في النظرة الى السينما، وظهرت تناقضات حاسمة في مشاريع (بغداد عاصمة الثقافة) في الحقل السينمائي، من بينها حصول بعض افلام الشباب المبدعين، على مواصفات جمالية رصينة، وانفتح الافق على احتمالات خلاقة جديدة، الامر الذي يتطلب تكريس هذه الاسماء، وتمكينها من حرفتها، بعد غياب اسماء مخرجين عراقيين كبار، او غيبوا لاسباب مختلفة . هنا نقف عند تجربة مخرج عراقي، يبدو لنا ان خطابه السينمائي مغاير للمألوف السينمائي العراقي، بشكل او بآخر، فيما يخص افلام (الاكشن) على الاسلوب الفني الاميركي، حتى ان عرفنا تجربة او تجربتين في السينما العراقية، التي تخص المطاردات، وخلق حالة من التشويق، والافادة من المؤثرات البصرية، والسمعية، ومن تسريع اللقطات، وحركات الكادر الدينامية ومغادرة السكون والجمود السردي.
طارق الجبوري، الذي انجذب الى الابهار السينمائي منذ سنواته الاولى في العمل الاحترافي (التلفزيوني) حيث انشغل بتقديم افلام وثائقية، تخلص من مشاهدتك لها، انها مكرسة لمخاطبة المواطن العراقي، والعربي، باهمية تاريخه وموروثه الوطني سواء على صعيد المخطوطات، والاضرحة، والاماكن الحافلة بالهندسة المعمارية، وفنون الخط والزخرفة والتلوين والخط. هذه الخبرة الاحترافية جعلته يثق بقدراته السينمائية، وبآلية تحريك الكاميرا من زوايا، ولقطات ومشاهد، فآثر توظيفها بفيلم اطلق عليه اسم (الكعكة الصفراء) وهو مدرج ضمن فعاليات بغداد عاصمة الثقافة. ولكن لم تسر الامور كما خطط لها! ولولا حنكته، لما خرج بطائل من تحديات (الانتاج) الذي عرقل الكثير من مقترحاته الاخراجية، وكان اسوؤها توفير العدة الحربية، للفيلم، الذي يقوم على صراع المخابرات الدولية، ومنها الاميركية، والاسرائيلية، والروسية، والايرانية، في داخل العراق بحثاً عن سر اختفاء قنبلة من اسلحة الدمار الشامل التي جرى تهريبها وبيعها لنظام صدام حسين من قبل سماسرة دوليين! تتقابل في الفيلم، قوى متناقضة، القاعدة، والقوى المخابراتية من ناحية، وعالم الذرة العراقي المصاب بالسرطان، وطفل وفتاة وامرأة وعازف، يظهرون بزمن خاطف في تدفق احداث الفيلم، الخاصة بالمغامرات، المعتمدة على مطاردة العصابات المذكورة، بسيارات مختلفة بحثاً عن رجل المخابرات (كلييف) وهو احد الفاعلين في نهب المعدات العسكرية والقنابل الفتاكة التي استباحها السراق بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، كان المخرج طارق ماهراً باختيار الكادر الرجالي، والنسوي، وقادر على تعميق اجواء الاثارة، والاستيهامات الجنسية والتحكم بمشاعر المتفرجين وزرع ثيمة الوطنية، التي تريد الحفاظ على السلم العالمي، كما وجدناها لدى العالم العراقي، الذي افنى الاشعاع الذري حياته، وهو يخاطب رجل الموساد الاسرائيلي في نهاية الفيلم بانه لن يبوح بالاسرار، لانه لايريد ان تتكرر مأساة الموت واشعال الحروب وتدير المستقبل الآمن للبشرية، في حين تأتي الاوامر من السياسيين الاسرائيليين بدفع مجندها المخابراتي للعمل من داخل ايران!
توفر في الفيلم، جانب ايجابي خلاق، ومنه الممثل الشاب الذي لعب دور (المطيرجي) وهو يناغي حبيبته فوق السطوح، والذي يكتشف عند مطاردته للطير وكر العصابة الاميركية، التي تحاول انتزاع اعترافات (كلييف) وكذلك نجد جانباً ابداعياً خلاقاً في التوفر على تقنيات (الاكشن) بدراية واضحة، وفي اختياره لممثلات ومن بينهن اجنبيات، فضلاً عن تنوع اماكن التصوير من داخل العراق وخارجه. تعتمد افلام (الاكشن) على ما يمكننا تسميته (بالطفالة) ونقصد بها عدم التعمق بتحليل الافكار، والابعاد الانسانية للشخصيات والتفريط كذلك بالجوانب الاقناعية تحت الحاح تدفق الصور واللقطات ولكن بطريقة ماهرة تنسيك عالمك، بعالمها الافتراضي، المنتزع من السياق الحياتي المعاش، لتقدم عالماً بديلاً تبرز فيه المهارات الفردية، لكن في القتل، وتصويب الاطلاقات، والاعلاء من شأن الذات النرجسية المختلفة، والتدميرية، وهي ترضي طموح الغرائز، والاهواء المعتلة الفاسدة، بحجة تنفيذها لمخططات بلدانها القصية ضد بلدان تدافع عن وجودها.
يدرك المخرج طارق الجبوري، مايريده من خطة فيلمه بما توفر عليه من تقنيات وان قمعت في كثير من جوانبها انتاجيا! لكنه بما يملك من حصيلة اكاديمية ناضجة لايريد ان يثقل متفرجه (بالافكار) والايديولوجيات والمواقف الخاصة بالخطاب الايديولوجي، قدر عنايته بمخاطبة شغف التلقي عند الجمهور العريض بهدف تحريك عواطف الجمهور مع حركة السينما التي عانت في العراق كثيراً من رتابتها في بعض الافلام المنقطعة عن سينما العالم المعاصر، كان يتطلب الاثارة في فيلمه كما (هتشكوك) حين ظهر بلقطة واحدة! نبارك هذا المخرج وفيلمه وكادره.