شهور طويلة وانا لا ارى بغداد الا من خلال فيسبوك وما كان في حكمه. وحين كانت الطائرة تحوم على الشوارع والاحياء السكنية استعدادا للهبوط في مطار بغداد قبل ليلتين، كنت اشعر انني امام لوحة فيسبوك كبيرة، يتصاعد منها الزعيق والتشاتم والتلاعن، وصور الموتى والاشلاء، والتفاخر بالقسوة والتسابق لخرق معايير الحكمة والعقل، والشكوك المبالغ فيها، وكمية من الكراهية تكفي لتدمير عدة بلدان متوسطة الحجم... وهذا المشهد الذي لم يكن بهذه الحدة قبل سنتين او ثلاثة، جعل غصة عميقة تتملكني وتجعلني راغبا في البكاء على مصيرنا جميعا. ولكن بمجرد النزول الى الشارع تكتشف ان الفيسبوك "اداة مبالغة وتهويل مروعة".
فمنذ يومين اتجول بين المقاهي الشعبية والتقي الاصدقاء، وامازح سواق التاكسي والباعة وحتى المشردين، واراقب طريقة الناس في الحوار وتبادل الطرف والحكايات، وانتقاد كثير منهم للعنف واسبابه وتمسكهم باحلام الاستقرار والحياة الطبيعية... ومجمل الصورة يجعلك تنتبه الى ان الاصوات المتشددة تعبث داخل المنتديات الفيسبوكية فتنجح في نشر "هستيريا متضخمة" جماعية تدفعنا الى خسارة توازننا والتورط بصراخ وانفعال واحكام مطلقة ومتسرعة ضد بعضنا، طوائف واحزابا وقوميات ومناطق، بينما المشكلة على ارض الواقع اقل بكثير من الحجم الذي تراه على فيسبوك.
بغداد ليست مثالية، وهي من اقل المدن حظا اليوم، لكن سوءها اقل بكثير مما يبدو في نواح وعويل وصراخ المتخاصمين على فيسبوك وعلى الشاشات.
ان من يمتلك مدينة مثل بغداد سيكون من حقه ان يستمتع بامتلاك امر عظيم وجليل، يستحق ان نحافظ عليه حتى لو تطلب الامر تنازلات كثيرة وتسويات و"انبطاحات" كي نمنع المجانين من حرق جوهرة كبغداد يستلقي دجلة بين ذراعيها، ويذوب الامراء والملوك حين يسمعون رنين حروفها. ولذلك تبدو زيارة بغداد بانتظام "فرض عين" على كل عراقي يتحمس للمشاركة في الشأن العام والادلاء برأي او الانخراط في نشاطات وحملات ذات طابع سياسي او عسكري في عراك الطوائف الذي يتسع ويكبر ويعبر حدود البلدان وحدود المصلحة وتخوم العقل والتوازن الانساني.
وبالنسبة لي فان زيارة بغداد دواء للتخلص من "حدة وباء الطائفية" الذي اكتسح عباراتنا وافكارنا على فيسبوك. كما ان المشي في الاسواق المزدحمة بين الناس العاديين، دواء من كل الاحكام المطلقة التي نوزعها ونظلم بها اهلنا وشعبنا.
في لحظات كثيرة كنت اشعر بالغربة العميقة، وبانني لا انتمي لهذا البلد الذي يخيل الينا انه انقسم الى طوائف تريد الفتك ببعضها. ولذلك تتملكني رغبة هروب عميقة احيانا كما هو الحال مع ملايين العراقيين، لكن بضع جولات بين الناس تعيد اليك شيئا من الايمان بان في هذا البلد الكثير من الاناس الهائلين في جمالهم، سواء كانوا يبيعون الشاي بلطف في شارع السعدون، او يعكفون على تطوير مناهج كلية علمية مرموقة في جامعة بغداد. وهؤلاء ليسوا ملائكة بل تتملكهم لحظات ضعف وانقسامات مثل غيرهم، الا ان مشاكلهم اقل بكثير من تلك الصورة الاقسى والافظع للنزاع التي تراها على فيسبوك وما كان في حكمه، وهو تضخيم مقصود ولا شك يقوم به بعض المغفلين وكثير من الواعين بذلك والمعتاشين على الانقسامات المتطرفة.
طريقة الحياة في بغداد دليل على امكانية ان يعمل عقلاء البلد على تخفيف كارثته. ولا احد يزعم ان من الممكن القضاء على المشاكل حتى خلال عدة اعوام، الا ان تخفيف تلك الازمات وادارتها بنحو اقل كلفة، امر ممكن ومشروع، يستحقه ملايين العراقيين الطيبين، الذين لا دخل لهم ببضعة مجانين يرفضون القبول بالتشارك والتصالح ومنطق التسوية، الذي يمكن ان يضع حدا لفضيحتنا بين الامم.
ربما ستتهم هذه السطور بانها هي الاخرى "تبالغ وتهول" لكن اي انفعال من هذا القبيل يتملكني الان، لا يلغي حقيقة ان بغداد اقل عنفا وطائفية مما يبدو على فيسبوك. والخطوة الاساسية لانقاذ هذه المدينة، هو الخروج الى الناس والجلوس معهم واكتشاف ممكنات كثيرة للعيش المشترك، من صميم قناعاتهم وطريقتهم في الحياة المشتركة.
بغداد اقل طائفية من الفيسبوك
[post-views]
نشر في: 18 مارس, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 4
علي كريم
عزيزي اخ سرمد، تحية وتقدير على احساسك اللاطائفي في عالم يبدو انه يسعى بكل جهد لترسيخ الطائفيه. منذ فترة وانا احاول النظر الى العراق من خلال المدى بعينك وبعين السيد علي حسين الذي يكتب عمودا في المدى ايضا، ولقد تعجبت وانا اقرا المقال الافتتاحي قبل ايام كيف
حسن
اخي الكريم ان الزعيق والتلاعن الذي تحدثت عنة يقف وراءه سياسيي الصدفه وامراء الطوائف الذين امتلكوا الفضائيات ومولوا هذه المواقع الالكترونية التي تمارس الشحن الطائفي لصب الزيت على النار لانهم يعرفون ان وجودهم مرهون بهذه الفوضى التي صنعوها واني لاارى من بص
علي كريم
عزيزي اخ سرمد، تحية وتقدير على احساسك اللاطائفي في عالم يبدو انه يسعى بكل جهد لترسيخ الطائفيه. منذ فترة وانا احاول النظر الى العراق من خلال المدى بعينك وبعين السيد علي حسين الذي يكتب عمودا في المدى ايضا، ولقد تعجبت وانا اقرا المقال الافتتاحي قبل ايام كيف
حسن
اخي الكريم ان الزعيق والتلاعن الذي تحدثت عنة يقف وراءه سياسيي الصدفه وامراء الطوائف الذين امتلكوا الفضائيات ومولوا هذه المواقع الالكترونية التي تمارس الشحن الطائفي لصب الزيت على النار لانهم يعرفون ان وجودهم مرهون بهذه الفوضى التي صنعوها واني لاارى من بص