تعرف الشاعر الاميركي الصوري ازرا باوند على النظرية التكعيبية من الفنانين الرسامين في زمنه. لقد رآها في المبادئ النظرية وأُسس الانجاز الفني. تكعيبية بيكاسو وبراك ودوامية لويس وكودير احدثت قطيعة مع التقليد وما لا يمكن تصنيفه ضمن الانطباعية الحديثة. هذه
تعرف الشاعر الاميركي الصوري ازرا باوند على النظرية التكعيبية من الفنانين الرسامين في زمنه. لقد رآها في المبادئ النظرية وأُسس الانجاز الفني. تكعيبية بيكاسو وبراك ودوامية لويس وكودير احدثت قطيعة مع التقليد وما لا يمكن تصنيفه ضمن الانطباعية الحديثة. هذه اختلفت عنها. مكونات التكعيبية تتطلب اشكالا وبناءات فنية جديدة تماما.
"تنظيم الاشكال،" يقول باوند، "هو اكثر طاقة وفعلا ابداعيا من محاكاة واستنساخ الضوء على كيس القش." واذ يقوم الانطباعيون بمحاكاة الظل على كيس القش، الجدد يحاكون ويعيدون فعل التلقي. الرسم التكعيبي يصور ادراك الشيء اكثر مما يعنى بمظهره او سكونيته. التكعيبي يمزج عنصري المحاكاة والتجريد ويعبر عن الدينامية ما بين الرؤيا البصرية والادراك العقلي.
ادرك ازرا باوند عميقاً النقلة المعرفية التي تحققت في زمنه وأن تغيُّراً اساسيا حصل. كان يرى ان هناك طريقتين لتفكير الانسان بالشيء، الاولى انك قد تفكر به مثلما يتحرك الادراك باتجاهه او كما تتلقى المادة التشكيلية الانطباع. والثانية انك يمكن ان تفكر به كما توجه طاقة ايقاد نحو ظرف او حالة كما تتصوره او تتصورها انت لا كما ينعكس وتلاحظه.
لابد من التاكيد على ان تاثر باوند بالتكعيبية لم يكن بالرسامين التكعيبيين قدر ما كان بنظرياتهم. فهو تاثر ثقافي بالدرجة الاولى وان لم يكن بعيدا عن انجازاتهم الفنية. اكثر من هذا، وتواصلا مع الفن في زمنه، ادرك باوند عدم الحاجة الى الاسلوب الذي يحاكون به الواقع او ما يكون بديلا ممثلا له.
"شجرة الصنوبر في الضباب على التل البعيد
تبدو مثل قطعة من درع ياباني.
الدرع، وان كان جميلا اصلا ليس جميلا
لانه يشبه شجرة الصنوبر في الضباب"
في اي حال، الجمال جمال شكلي من (شكل)، فهونتيجة من نتائج ميلان السطح. هو ينتسب الى السطح المائل. الشجرة والدرع جميلان لأن سطحيهما يستلقيان بطريقة معينة.
اهتمام باوند بدينامية الصورة وحيويتها جاء من تاثير الاساليب التكعيبية والدوامية في العمل الفني حيث العناصر منفصلة او بارزة تتقارب في علاقات دينامية متحركة. وهذا ما تضمنه نشاط باوند الشعري: "لست متاكدا من وجود عمل عظيم ليس تطويريا. بعض التطويرات تعتمد الاكتشاف ولكنها لن تكون الا تطويرية..."
ونعلم ان النشيد The Canto اظهر طريقة ادراك، اكتشاف، وابداع اشكال جميلة من التجربة الانية منفصلة او مستقلة واحيانا من دون اعتبار لمجرى الشعر نفسه. ولهذا تجد شتى الاشياء والاسماء والوجوه والامكنة تتوالى من وعي او لا وعي لكن النتيجة انه له الصورة التي يكونها هو منها. "على الفنان ان يعتمد على الابتداعي لا على المُحاكَى او ما ينوب عنه او يمثله represental، وهذا الشيء نفسه في كتابة القصائد. على المؤلف ان يستخدم خياله لا ليرى الشيء او ليشعر به ولكن ليستطيع ان يستعيده لا لعرض معتقَد او مشروع او اي من الامور الاخلاقية او الاقتصادية انما لكي يراه!"
معروف ان باوند لم يطبق هذا في اعماله الشعرية الا في "اناشيد مالتستا". في هذه طبق نظريته بشكل تام وبدقة تقريبا وان كان شعره قبل اناشيد مالتستا تاثر عموما بالجماليات التكعيبية. وظل في نثره يستعير مصطلحات من فن الرسم لوصف اشعاره. كان يستعمل ما يشبه اللصقات الملونة على فنه ليؤكد حضورات نوعية. تعريف باوند الخاص للصورة تضمن اعادة تعريف للاستعارة وهو ماض في مساعيه لفن يستحضر او يدل. فبينما وليامز في "ربيع وكل" يحقق اسلوبا "مستحضِرا"، يمثل او ينوب عن الشيء، كان باوند يسطح الاستعارة لتؤدي علاقات كنائية.
شعراء مثل ابولينير، مارنتي والدادائيين استخدموا عنوانات الصحف الرئيسة او ما يشبه العنوانات الرئيسة. كما ان ما اضافوه من توظيف الحروف الكبيرة في سياق الكتابه هو شبيه بما اضافه من قبل مالرميه من رسم طباعي، كل هذا اتضح فيما فعله جيمس جويس في ايولس Aeolus التي تحدثنا عنها باستخدام الحروف الكبيرة في بعض الكلمات وبعض العبارات ايضا، فكانت هذه تؤدي مهمة العنوانات الصحفية نفسها. ليكشف بها وبتوالي الافكار والاشارات في زمن معين التصور الذي في عقله. جويس فعل مثل هذا في اعماله المبكرة مثل "الاخوات" و "حالة مؤلمة". لكن ظهور هذه عنده وعند غيره من الكتاب لم تكن متوالية مستمرة حدَّ ان تشكل اتجاها في الكتابة مثلما حصل بعد ان عاودها في يولسيس.
استخدام العنوانات الصحفية الكبيرة اول من افاد منه ووظفه هم التكعيبيون في 1912 والمستقبليون الايطاليون. جيمس جويس اطلع عليها وفي فترة دراسته وتنقله بين زوريخ وباريس تعرف على التكعيبية.
في الرسم اتسعت استخدامات الكولاج وتنوعت مواده: قطعا من ورق، حبات رمل ، شرائح خشب فضلا عن قطع من الصحف القديمة.
وفي العودة من الروائي الى الشاعر يرى باوند ان "اعادة البناء تعني ادراك واستعمال قطع من الماضي لغرض صناعة تشكيلات جديدة للحاضر. " باوند ياخذ قطعا تاريخية مثلما يرفع اجزاء جوهرة محطمة من مقراتها ويعيد ترتيبها في موزائيك معاصر، في كولاج؟"
مواد الكولاج هذه تمثل السمة المركزية لانشغال الحداثويين في الفنون البصرية- خيال الفنان هو المعيار الاكثر سلامة لقياس وتقويم المنجز الفني ومعرفة مدى قرب هذا العمل او المنجز من الحقيقة كما يراها الفنان بثقافته وتكوينه.
اما بالنسبة الى جويس وروايته يوليسيس، فيرى ان هذه الرؤية تمثل قوة فعل الخيال مسنَدا بالحقيقة. وهنا يكون الفصل الحاسم عن التجريد. لن نحتاج بعد الى التاكيد على ان الكتابة البارزة بحروف كبيرة، لا تختلف عن عنوانات الصحف الرئيسة head lines وبهذا يكون استعمالهما معا طبيعياً ومنسجماً.
في عمل جويس، في ايولس او في يوليسيس، يؤكد قناعته الفنية بهذه الوسائل او الاشكال، التي هي اصلا هِبة من التكعيبية. ومع يولسيس تبدأ وتنتهي بواقع مُتَصَوَّر وثمة كثير من النثار الواقعي المُلصَق هنا وهناك بطريقة الكولاج او بشكل جمل خبرية اعتيادية، الا ان الكثيرين من القراء، وقد نكون من بينهم، رأوا الرواية بعيدة عن الواقع كما هي بعيدة عن الحقائق المعتَمَدة. هي في رأيي عمل فني وفني بامتياز. وتظل تناقَش بوصفها عملا فنيا ضمن الانجازات الفنية المتحققة في ذلك الزمن وربما في زمننا ايضا
لكن بقي لنا سؤال: هل هذه الافادة من عنوانات الصحف القديمة او الجديدة وسواها من مواد الكولاج تفيد في منح العمل صفة واقع آني ام ان لها مهمة اخرى؟ الحقيقة اننا نجد في ايولس ما يفيد تعليقا او اشارة غمز للحدث او للحال مثل: "دعنا نامل"
LET US HOPE او "عزيزتنا دبلن القذرة" DEAR DIRTY DUBLIN في كل حال نحن نجد في " اهالي دبلن" و " يوليسيس" ان الفن يجمع بين محاكاة الواقع، بطريقة خاصة جداً، وتجاوز تلك المحاكاة. وان الفنان هو صانع مثلما هو مقلد بطريقته الخاصة، بنفاذه. اما الفكرة التي كانت شائعة يوما، حتى بين بعض نقاد الفن، بانها كانت تخدم كمفردات ديكور، فهذه الافكار تبدو اليوم هزيلة جدا. ادراكنا الفني اوسع من هذا بكثير...