ما الذي يمكن ان نقوله امام عمل فني هو نفسه عازف عن قول أي شيء سوى تقديم شكله الفني المحض ؟ هل يمكن الانطلاق من عنوانات الاعمال الفنية كموجهات مقبولة للقراءة ، وهي في الحقيقة لا تتطابق مع مضموناتها وتمثيلاتها الواقعية ؟ اذن ماهي فائدة اسماء اللوحات ال
ما الذي يمكن ان نقوله امام عمل فني هو نفسه عازف عن قول أي شيء سوى تقديم شكله الفني المحض ؟
هل يمكن الانطلاق من عنوانات الاعمال الفنية كموجهات مقبولة للقراءة ، وهي في الحقيقة لا تتطابق مع مضموناتها وتمثيلاتها الواقعية ؟
اذن ماهي فائدة اسماء اللوحات الفنية ، اذا كانت الاخيرة لا تشيرنا الى الواقع الذي نعرفه ، وإنما تنزاح بنا الى حياة لم نجربها و لم نتعرف عليها بعد ؟
هل نكتفي بغاية العمل الفني الداخلية ، ام نكتفي بالتأمل الصرف ؟ وماذا عن تلك الاستشعارات الجمالية التي يحركها فينا عمل فني ؟
حقاً انها محنة الكتابة عما نستشعره ولكننا لا نعرفه ، عما يتيح لنا لحظة جمال كغاية بحد ذاتها ، غاية نخشى ان نخرج بها الى عالم المقولات لنجد أنفسنا قد تسببنا بتشويه وجودها الجوهري .
كوبنهاغن مدينتي ، بغداد ، صور اخرى للحياة ، تلك هي من عنوانات معرض الفنان حسين الطائي ، الذي أقيم مؤخراً في كوبنهاغن . وعلى الرغم من ان عنوان اللوحة الاولى هنا ، استعاره الفنان من قصيدة للشاعر الدنماركي دان تورل ( كوبنهاغن مدينتي ) ، ولكن اللوحة لا تقول اي متن ادبي عن كوبنهاغن ، هي فقط تعبير عن انفعال شخصي للفنان استطاع من خلاله استثارة انفعالنا الجمالي ، ليس مهما الموضوع هنا ، كوبنهاغن هي (المشكلة) التي تشكل منها مبتدأ الانفعال ، هي العلة الاولى التي يباشر الفنان محوها على الفور متخلصا من اثار( القصيدة - المدينة) بشكل تام . هي مجرد ذريعة خارجية للسفر الى دواخل الذات واستنطاقها ، وهذه هي مفارقة الموضوع - المضمون في الفن .
كذلك الامر مع اللوحات الاخرى ، تجد الفنان ينطلق من قاعدة واقعية يقررها عنوان العمل ، ثم يحلق بعيدا عنها حتى يتسع دونه الفضاء ، ثم تبدأ هذه القاعدة بالتلاشي ، ليس مهما وجودها من عدمه ، نحن الان داخل اللوحة ، في وسط تلك التوافقات والتنافرات اللونية والخطية وهي تشتبك في الفراغ الذي يتشكل حولها .
في التجريد ، ينحاز الجمال للحس الداخلي ، للعاطفة ، للانفعال ، وأخيرا للخبرة في صناعة شكل بلا زوائد ، شكل نقي محسوب بدقة حدوسات الفنان ونبرته الخاصة .
يترك حسين الطائي بينه وبين السائد ( التجريدي ) مسافة كافية لكي لا يتورط في الموجود المكرر ، هو ينأى بلوحته عن المتعارف عليه ، عن المقبول ، عن الجيد ،، ليدخل في صلب الاستثنائي ، الخاص ، الفريد الذي لا يمكن معايرته مع سواه ، واي جمال يمكن تحققه هنا ، سوى ذلك الجمال الذي يستوجب التامل اكثر ما يستدرج الانطباع الفوري ومن ثم التورط في الحكم إلقيمي .
لا يمكنني ان أقول عن هذا المعرض انه معرض مهم ، لانني سأضطر بعد ذلك الى المقولات الشعرية او التوصيفات الصحفية لكي أبرر ذلك . جل ما يمكنني قوله في هذا المقام ، ان الجمال يتحدث داخل هذه الاعمال بلغة غير مشوشة ، والجمال الذي يقدمه الفن كثيرا ما يصاب بالنفور من اللغة الخارجية ، من قطعياتها وتقريريتها وانحيازها الإجباري .
على الرغم من مصادفتنا لتشخيصات او اثار تشخيصية في نسيج العمل ، ولكنها هنا ليست بذات قيمة معنوية امام الخطوط التي شكلتها ، والالوان التي حاولت ترسيم حدودها . اللون والخط هنا ، هما وحدهما سيدا مسرح الجمال هذا ، وبظني أنهما سيبقيان كذلك حتى لو رسم حسين الطائي منظرا مقطعيا معماريا urban landscape لمدينة كوبنهاغن ، فان ما يسحرنا في ذلك ، ليس مشهد المدينة وإنما تلك الخطوط وتلك الالوان وتلك العلاقات التي شكلتهما .
للاسف لم تتح لي فرصة مشاهدة المعرض مباشرة ، وإنما اطلعت على بعض الصور المنشورة على صفحة الفنان في الفيس بوك ، لذلك تعذر علي ( كالعادة ) اكتشاف السطوح وملمسيتها بدقة ، لما لذلك من أهمية في قراءة وتأول اي عمل فني ،، كما انني اخاف من الصورة الفوتغرافية للعمل الفني ، التي قد تبتعد الوانها عن الأصل ، ولو بدرجة لونية واحدة ( Pantone Color ) فيكون الحديث عن اللون نوعا من التجني . وكذلك تختصر الصورة مساحة اللوحة وحجمها وهما عنصران مركزيان في مشاهدة العمل الفني ، العين التي تتحرك في مساحة 180 * 180 سم تفقد حريتها في الحركة عندما تتأمل صورة لا تزيد ابعادها عن 6 * 6 سم .
كل ما يمكن قوله من خارج العمل الفني هنا ، إنني و خلال مجموعة قليلة من صور الاعمال التي اطلعت عليها ، تاكدت مرة اخرى , من ان حسين الطائي فنان يتحاشى السير في الطرق المألوفة ، هو يؤسس خصوصيته بارادة ووعي ، مدفوعا بتلك الروح التي امتهنت صناعة الجمال . هو مهندس فراغ مميز ، ومعمار أشكال رشيق الخطوط، يراكم سطح لوحته بطبقات لونية تتنافر وتتجاذب داخل لعبة بدت كما لو انها أعدت بدقة ، لا مكان للمصادفة فيها . تلك هي الهندسة الخفية التي تميز الفن عن سواه .
عندما تتنوع خارطة الفن العراقي شكليا , فتلك علامة عافية ، لقد تعبنا من رؤية اللوحة الواحدة التي يوقعها عشرون فنانا . لقد مللنا من التكرار , واحتجنا حقاً لمن يغامر دون تردد وارتياب , طالما ان الجمال ينهض بأعماقه . طالما ان التحليق في الأعالي لم يعد خطرا بالنسبة اليه . وذلك هو ما يقدم عليه حسين الطائي بكل وضوح .
حسين الطائي
ولد في بغداد 1966 وتخرج في كلية الفنون الجميلة بغداد 1992, درس الكرافيك في المدرسة العليا للفنون هولبك الدنمارك 2006-2007 , يعيش في الدنمارك منذ 2001
أقام 18 معرضا شخصيا و شارك في العديد من المعارض في العالم العربي واوروبا .