اذا كان(الشعر)-في واحدة من معاني غاياته التمردية على الواقع- يمثل من وجهة نظرالكاتبة والناقدة الأميركية المعروفة(سوزان سونتاغ) نوعا من التخلص من المكان،فان الرسم لدى الفنانة التشكيلية ومصممة الأزياء هيفاء الحبيب - (تولد البصرة/1945) يمثل نوعا م
اذا كان(الشعر)-في واحدة من معاني غاياته التمردية على الواقع- يمثل من وجهة نظرالكاتبة والناقدة الأميركية المعروفة(سوزان سونتاغ) نوعا من التخلص من المكان،فان الرسم لدى الفنانة التشكيلية ومصممة الأزياء هيفاء الحبيب - (تولد البصرة/1945) يمثل نوعا من التخلص من وطأة الحنين الطاغي الذي ما برح يسكن روحها ويتغلغل في مساماتها بعد مغادرتها للعراق مع زوجها الفنان التشكيلي الكبيرفاروق حسن (أيضا تولد البصرة) والعيش في الولايات المتحدة الأميركية-منذ عدة سنوات- بعد أن درسا الفن في ايطاليا/روما في العام/1976 حيث تخصص (هو) بدراسة الرسم
فيما تخصصت (هي) في مجال السينوغرافيا المسرحية والسينمائية/أكاديمية الفنون الجميلة في روما/1981،لتعمل - بعد عودتها للعراق- في دائرة السينما والمسرح كمصممة أزياء، كما قامت بتصميم أزياء (26) لوحة لفرقة الفنون الشعبية في البصرة، ونالت العديد من التقديرات والجوائز نذكرهنا -مثلا-فوزهما المشترك مع زوجها في مسرحية (راشمون) التي عرضت في العام1987 ، فقد نال (فاروق) جائزة التصميم المميز لديكور هذه المسرحية ، فيما نالت (هيفاء) جائزة تصميم الأزياء لهذا العمل الملحمي الكبير للمخرج (سليم الجزائري).
قصة الرداء..
عبر التاريخ
تقف مساعي الرسم وباقي ملَكات(هيفاء محمود الحبيب) عند حدود و فضاءات أبعد من حيث تراهناتها الإبداعية في كتابة القصة القصيرة والنثر الشعري ونشرها للعديد من هذه النتاجات في الصحف والمجلات العراقية،فوق ذلك ملَكة تصميم الطوابع على مستوى احترافي مدهش،تكلل بتصميم خمسة طوابع لحساب مصلحة البريد العراقية صدرت في العام/2011،فضلا عن البحث في مجال الأزياء متلخصا بصدور كتابها المعنون (الأزياء الشعبية في البصرة خلال قرن) وهو من إصدارات جامعة البصرة/1986،فيما تعكف- ومنذ أكثر عقد من الزمن لإنجاز كتابها الموسوعي عن قصة الرداء في تأريخ العراق القديم،منذ فجر التأريخ وحتى أوائل عصر الإسلام،والذي لا يزال قيد الكشف ومناورات البحث بعد تقاعدها والتفرغ تماما لفن الرسم ولهذا العمل الضخم الذي تعده وترى فيه مشروع عمرها.
شاء لـ (هيفاء) أن تسهم في الرسم عبر مشاركاتها في معظم معارض جمعية التشكيليين العراقيين،والمعرض الدولي للخط العربي،وثلاثة معارض مشتركة مع (فاروق حسن) في كل من بغداد/عمان/وأخيرا المعرض الذي أقيم في الثامن عشر من كانون الثاني/2015 على قاعة احدى الكاتدرائيات في مدينة(بورتلاند)في ولاية(أوريغون)حيث يعيشان هناك- كما قلنا-ومنذ عدة سنوات.
لقد حفل العرض بمجموعة من أعمالها الجديدة والمنفذ بعدة مواد وخامات واستنارات لونية وتصميمية زاخرة بدواعي وعي فهم لخواص وإمكانيات تلك المواد من حيث إستثمار أثرها ومرونة تأثيرها في تعميق أواصر ذلك المنحى الدرامي الذي فرضته (هيفاء) بتنويعات وجوه ومشاهد وتحميلات وجدانية أثرت المشهد الذي اقترحت وجوده واستعاراته على نحو مقصود من حيث درامية الشكل،وغير واعٍ أو غير مقصود من حيث صراحة المضمون .... كيف ؟
ولع الأسئلة..
منهجية الإجابة
لا تعدو أن تكون الإجابة فن غفلة من ذلك السؤال-المثال فيما يخص مضامين لوحات(هيفاء) لمن يتفحص محتواها بشكل واعٍ جيدا ومتفهم لها،مجرد إفاقة من لذة حلم مضى وتشظى في لجج حنين مهيض الجناح والوجدان،زحف ليكمل دورة الحلم على شكل شريط سينمائي مر على ذاكرة الفنانة،وأفاض في لغة تفسيره لتلك المرامي الحلمية والاستذكاريات الحميمية،وهي تتلامع شوقا و نبضا وحنينا لماض لايريد أن يمضي جراء حمم الصراعات الذاتية والحوارات الداخلية التي تجاوزت فيها (الحبيب) لغة البوح باللسان لإستبدالها بلغة الهمس بالعين،واللمس بالمشاعر حيال مرايا ناصعات،صافيات تزيد من زهو هوى ذلك الشوق وتلعثمات الحنين وتراكمات أسرار أضحت معلنة من فرط صرامة وحدة اللحظات التي سعت لتصويرها بهذا البذخ الفاتن من الألوان المؤثرة وبهذا النسق من التعبير،عبر زهو تتابعات حسية،تشي بمعنى أثر سطوة(السينوغرافيا) في مناخات تلك التدخلات الذهنية والصور الحافلة بوجع الذكريات،فما بين حضور الرجل وغياب المرأة وفي حالات أخرى حضورهما معا،أو غيابهما كذلك، أذا ما استثنينا طغيان التصميم بالحرف والزخرف المشفوع بكتابات ومصفوفات وأرقام،وسمت بعض تلك الأعمال التي شاغلتها عمليات من اللصق(الكولاج) تارة،وبالرتق والتزويق الذي يستخدم في مسك الطبقات الجلدية ببعضها عبر أشرطة جلدية حقيقية تارة أخرى،سعيا لكي تلزم هذه العمليات حتمية وضرورات الإبقاء على قيمة العراقة وتقادمات الزمن على الأشياء،كهالات تتناغم حرصا وإخلاصا والانتماء الى نشوة ذلك الزمن،وفي أقصى حالات تمهيداتها الحداثوية في شكل ومضمون بقية أعمالها الأخرى في المعرض المشترك مع فاروق،تلك التي توزعت فيها تجلياتها ما بين خط وزخرفة ومحافل رسم تعبيري يشاكس-أحيانا- بلغة التشخيص والتجسيد الطوعي ليفرض هيبة حضور غامض وخلاب في ذات التحسس،وفي ذات الإندغام النسبي مع حيثيات ومحتويات المشهد الضاج بالنبض والحركة والرضوخ التام لهيمنة الولع بالذكريات،تمهيدا لمتعة وحرارة اللذة الذائبة في طعم تلك اللحظات العابرة والمثمرة في ذات الشعور،بغية تحفيز بعض خلايا الذاكرة النائمة والمتدثرة بالنسيان.
فثمة من يستدعي جحافل مشاعره وحشود أحاسيسه ليقول لنا بحسرة وأنين مكابر؛(ما أقسى أفراح الماضي على الذاكرة ).
السينما على شاشة الرسم
صفة الوضوح،بما يشبه التجلي هي ما غلبت على هذه المجموعة من أعمال(هيفاء الحبيب) كونها مقلة الى حد ما في تطويع مواهبها بالرسم الى جانب نجاحات مبهرة لزوجها ورفيق دربها وطفولة أحلامها الفنان(فاروق حسن)،ولعل هذا الوضوح هو من رسخ معنى وجودها على هذا النحو من التماثل والتصوير لحالات ومشاهد تقترب جدا من ضفاف المشاهد السينمائية،بل في احيانا أخرى نهاب من ان نرى (شيتا) بوستر كبير كالذي يعرض مع الأفلام،يقوم بتويضح مكامن أحاسيسها من حيث فتنة اللحظة وبريقها المثقل بالحزن الشفيف الذي يصل حدود الترف في صدق تعاملاته مع مفردات الحزن المدقع،إنها تفيض نبضا وتمردا خلال توضيحاتها ونوافذ توريداتها لما يسكن ويعيش في دواخلها الصادقة والمتصالحة مع عالمها وتصنيفات دوافعها الجمالية.
أعمال حالمة بمطرزات وجدانية حانية ومتمردة في ذات حواصل وعيها المبثوث في أدق تفاصيل اللوحة،(هيفاء)،ترسم ذاتها بروح عالية الوثوق والتوادد المعلن مع نبل تلك الذات وحيوتها،فيما تخفي رهان هواجسها من خلال التمرد على الشكل وتضيء عتمة المضمون بوعي ثائر،ينتصر عادة للمواقف والجمال المرهون بسيل من عوالم مرئية ومتجسدة بعناية وإتزان، لا يأبه كثيرا بالتقنيات والمرصودات الاكاديمية البحتة،بل ثمة ميل خفي ومعلن للحرية والمناخ المعتدل لمعنى قيمة الحياة والتمتع بها من خلال الرصد والتحريض والمشاركة الحريصة والفاعلة في التعويض عما هو يومي ومعاش،كذلك الذي يكاد أن يكون مألوفا ،بل مملا.
لوحات(هيفاء الحبيب) الأخيرة-على الأقل والسائد منها في هذا المعرض- تحادد قيم الوجود وتلح على أن الحياة-كما كان يقول بيكاسو- تطرد كل من يتوافق معها،من هنا تنتشل هذه الأعمال مهارات صدقها وحنو رومانسيتها من قيعان التذبذب والتقهقر الذي أصاب حياتنا الراهنة،جراء جحود الإنسان والتفريط الدائم بإنسانيته الحقة،ودواعي أسباب وجوده الحقيقي.