TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مأذونيات المتصرفيات بعد ٨٥ عاماً

مأذونيات المتصرفيات بعد ٨٥ عاماً

نشر في: 21 مارس, 2015: 09:01 م

قبل ٨٥ عاما تقريبا، يحلم ملك فتي بالمؤاخاة بين عشرات الجماعات اللغوية والدينية والثقافية في بلاد بين النهرين، لينشئ بلدا واعدا على انقاض كل حكايات ألف ليلة وليلة التي تلاشت مع اهلها قبل ذلك بكثير.
وبعد سنوات من جلوسه على العرش، والتفكير ملياً مع الباشوات والأفندية ورجال الدين وزعماء القبائل والحلفاء الاجانب والجيران.
يكتب الملك فيصل الاول ما يشبه التوصيف المؤلم لحال البلاد، حد ان تشعر انه يائس، لولا انه ملك لا يليق به اليأس. وفي الرسالة الشهيرة التي بعثها الى ممثلي الجماعات والطوائف والاحزاب، يقول ان طريق الانقاذ يتطلب مناقشة ١٥ نقطة، تبدأ من الاهم وتنتهي بالاقل اهمية، وضمن اول خمس نقاط مهمة يضع الملك عبارة مسبوكة بلغة الادارة الاسلامية العثمانية القديمة، قائلا ان ازدهار البلاد يتطلب "زيادة مأذونيات مجالس الالوية والمتصرفيات، ليُقبل اهلها على المشاركة في الحكم". واذا ترجمناها بتعابير اليوم فان فيصل بن الشريف حسين كان يرى ان البلاد لن تزدهر إلا اذا قامت السلطة بتوسيع صلاحيات مجالس المحافظات، كي يشعر اهلها بأنهم يعيشون في ظل نظام سياسي يمثلهم ولديهم كلمة وقرار فيه، ومشاركة اصيلة في صنع سياساته.
يقول الملك انه كتب الرسالة التي تحولت في ما بعد الى وصية، كي يوجهها الى عدد محدود من اهل الرأي والعقل. وانه ينتظر جواب الباشوات وممثلي الجماعات كي توضع خطة للتقدم. لكن الملك رحل وجاء بعده ملوك عقلاء وسلاطين مجانين وزعماء بين بين، ولاتزال رسالته او وصيته بانتظار اجابة مستقرة، ولاتزال البلاد تحلم بالتقدم والازدهار، بلا كلل او ملل، وآخر تطور طرأ في ملف مجالس المحافظات ما كشفه الوزير المختص قبل ايام من ان تسع وزارات تقترح تأجيل اللامركزية و"مأذونيات مجالس الالوية" حتى عام ٢٠١٧.
وإذا اعتبرنا وصية فيصل واحدة من اوضح واقدم وثائق الاصلاح السياسي في العراق الحديث، فانها ستكون صالحة لقياس الزمن المتباطئ في بلادنا، بحيث ان فكرة اللامركزية الادارية تتلكأ فيه نحو مئة عام، رغم انها كانت مطبقة فيه لقرون خلال العهد العثماني بشكل خاص، وإن بصيغة بدائية. كما ان حجم الأسى الذي تزخر به الوثيقة، وانا امر عليها للمرة الستين، يوحي لك بان الدهور لم تتغير، فهو يصرخ قائلا: اتمنى ان تحصلوا على مصنع زجاج بدل ان تشيدوا دارا فسيحة للحكومة او قصرا منيفا للملك!
واذا اعتبرنا طلب سنتين اضافيتين كمهلة لتنفيذ اللامركزية المجمدة منذ دستور ٢٠٠٥، مجرد ضمان انتقال سلس الى النظام اللامركزي، فان كثيرين سيؤيدون ذلك، لكن علينا تطمين المعنيين بان هذا لن يكون مبرر تسويف وتأجيل لثمانين عاما اخرى، وإلا فان تأخر الاصلاح الاداري والسياسي لن يتوانى عن اسقاط المزيد من العروش والكراسي والاحلام المشروعة وغير المشروعة.
إنّ في هذه البلاد املا بحجم البساط الاخضر الذي تكتسي به المدن هذه اللحظة، من جبال كردستان حتى شاطئ ابي الخصيب الذي امتلأ بالمتنزهين والمتنزهات نهار السبت احتفالا بالنيروز او النوروز. لكنّ في هذه البلاد ايضا قدرا من الجنون والانفعال قام بتذكير آلاف الامهات العراقيات في عيد الام، بأنهن فقدن المزيد من الابناء والازواج، في حروب غير مبررة لولا نقص الحكمة التي كان بإمكانها ان تقلل من حدة طعم الموت وتخفف من لون الكارثة ومستواها.
إن الحديث عن المؤامرات والمزيد من "الاجندات" مجرد مضيعة للوقت، فلا حل لكل المنطقة بعد سقوط مشروع الدولة، سوى ان تعيد قراءة وثائق الاصلاح السياسي العتيقة لتشعر كم تباطأ الزمان في هذه الممالك، وكم تسارع الخراب والموت، وكم مرة دخلت السعادة على قلوب كل خصم، بسبب تراخي اراداتنا وخشيتنا من ان نتصالح مع بعض، وان نجلس للحوار مع بعض، لنستجمع ما تتطلبه شجاعة صنع القرارات الكبيرة، للإجابة عن تساؤلات الملك القديم الذي ظل يفتقد أثرها نحو ٨٥ عاماً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram