TOP

جريدة المدى > عام > التعليم العالي في العراق إلى أين؟..التخصصات الإنسانية بين قصر نظر المسؤول وضيق أفق المؤسسة

التعليم العالي في العراق إلى أين؟..التخصصات الإنسانية بين قصر نظر المسؤول وضيق أفق المؤسسة

نشر في: 23 مارس, 2015: 12:01 ص

( 10 )
القسم الثاني
 
 نستكمل هنا ما قلناه في القسم الأول من هذا المقال، عن التخصصات الإنسانية حين تكون ضحية قصر نظر المسؤولين وضيق أفق المؤسسة الأكاديمية. لكننا نجد من الضروري تكرار ما رأيناها حقائق يجب أن تكون نصب أعيننا ونحن نناقش هذا

( 10 )

القسم الثاني

 

 نستكمل هنا ما قلناه في القسم الأول من هذا المقال، عن التخصصات الإنسانية حين تكون ضحية قصر نظر المسؤولين وضيق أفق المؤسسة الأكاديمية. لكننا نجد من الضروري تكرار ما رأيناها حقائق يجب أن تكون نصب أعيننا ونحن نناقش هذا الموضوع، وهي الآتية:

 

الحقيقة الأولى: ليس هناك من تخصص علمي، أيّاً كانت طبيته وهويته، غير مهم، وإلا ما وُجد أصلاً، أو ما تواصل وجوده وأقرّته بلدان العالم وجامعاتها ومراكز أبحاثها.
الحقيقة الثانية: تكتسب بعض التخصصات أهمية أكثر من تخصصات قد تقلّ أهميتها في مراحل وظروف معينة، لتفقد الأولى بعض أهميتها وتكتسب الأخيرة أهمية أكثر في مراحل وظروف أخرى. ولهذا يزداد الاهتمام، في بلدان العالم وجامعاتها، بتخصصات بعينها أكثر منه بتخصصات أخرى في بعض الأوقات والسنوات والعهود، وقد يقل هذا الاهتمام بالتخصصات عينها في أوقات وسنوات وعهود أخرى. ولكن ما انتهت أهمية أي تخصص وانتهت الحاجة إليه، إلا في النادر جداً. 
الحقيقة الثالثة: بين التخصصات جميعاً لا تكاد تتغير أهمية التخصصات الإنسانية، إلا بدرجات محدودة، ببساطة لأنها، فلسفةً ولغةً وأدباً واجتماعاً وتربيةً وتاريخاً وفناً وإعلاماً.. إلخ، تتعلق أولاً ببناء الإنسان قبل البلد، وثانياً لأنك في الوقت الذي تستطيع أن تغطّي الحاجة أو النقص في أي تخصص علمي، طباً أو صيدلةً أو هندسةً أو غيرها، باستجلاب العنصر الأجنبي بشكل مؤقت أو شبه دائم أو حتى دائم، بل ربما حتى بالتدريب غير الأكاديمي بالنسبة لبعضها، فإنك لا تستطيع أن تفعل ذلك بالقدر نفسه مع التخصص الإنساني، وثالثاً لأن المتخصصين في العلوم الإنسانية هم الذين يمتلكون الرؤية الأوسع والنظر الأبعد والفهم الأكثر واقعية للأمور، ورابعاً لأنه في الوقت الذي يستطيع فيه المتخصّص الإنساني فهم الحاجة للتخصصات العلمية، فإنه لصعب على المتخصص العلمي فهم الحاجة للتخصصات الإنسانية، ولهذا نحن لا نجد بلداً في العالم، غير العراق، ولا جامعات في العالم، غير جامعات العراق في هذا العهد، قد استغنى عن التخصصات الإنسانية ولا قلل من الاهتمام بها، مهما تطور هذا البلد وتطورت هذه الجامعات، وأمثلة بلدان، مثل اليابان وأميركا وبلدان أوروبا، وجامعاتها واضحة. 
إن الجهل بهذه الحقائق أو تجاهلها إنما ينمّ عن قصور من بعض مسؤولي التعليم العالي، وانقياد مسؤولين آخرين قد لا يكون لهم نفس هذا القصور، في فهم التخصصات الإنسانية والحاجة إليها، بل خطورتها. وهو ما فهمَتْه القوى الظلامية والمتطرفة والجامدة، دينية وغير دينية، فحاربتها بدرجات مختلفة انطلاقاً من هذا، كما فعلت داعش والإخوان المسلمون والسلطات الدينية في بعض بلدان المنطقة، فقام بعضها بإلغاء جل التخصصات الإنسانية وقام بعضها بتحريم قسم منها تحريماً مطلقاً، أو في مراحل دراسية معينة، بينما حرّم بعضها الآخر قسماً منها على المرأة تحديداً، كما فعلت داعش مؤخراً حين ألغت جل هذه التخصصات في الجامعات التي تسيطر عليها، وهو ما طال الفلسفة والرياضة والفن والاجتماع واللغات. وكل ذلك لأن هذه القوى المنغلقة والجماعات الظلامية والحكومات الماضوية تعرف جيداً أن هذه التخصصات (تُفسد) البشر، أي في لغتنا تنوّر البشر وتحرّرهم وتوعّيهم. ولأن بعض مسؤولينا لا يقرأون قصة ولا شعراً، ولا يستمعون إلى أغنية أو قطعة موسيقية، ولا يشاهدون لوحةً أو فيلماً، ولا ينظرون إلى الأشياء بفلسفة خاصة أو يقرأون التاريخ، فإنهم لا يستطيعون أن يفهموا ويعوا الجمال والطبيعة وتنوّع الأبعاد والخيال والعلاقات ما بين البشر، فكانت استهاناتهم بالتخصصات التي تُعنى بهذا. في مقابل هذا كان صعود الاهتمام بالأدب والفن والرياضة والفلسفة وغيرها في البلدان المتقدمة، ولنا في اليابان وألمانيا والسويد وفرنسا وبريطانيا أمثلة لا يمكن إلا لجاهل نفيها. من جهة أخرى أراهن أن جل هؤلاء المسؤولين لا يعرفون أن الكثير من بلدان العالم تلك تخصص لدراسة لغاتها، مثل اليابانية والإنكليزية والفرنسية، ساعات تزيد على عدد ساعات تدريس العربية في مواطنها. 
إذن يخطئ أي بلد لا يدرك هذا كله أو يفعل خلافه، وعلى أية حال لا نظن أن هناك بلداً متحضراً في العالم، غير العراق، قد فعله، ونظن الدليل على ذلك واضح في ما آل إليه التعليم العالي اليوم. فجزء من أسباب التردّي فيه يعود برأينا إلى انحسار قيم المجتمع ونظراته وتحليلاته وتنظيراته الحضارية كما يعبّر عنها علم الاجتماع، وإلى شبه اختفاءٍ للنظرة الفكرية والفلسفية إلى الأمور والتعالي على فلسفة العلم والتعليم والتربية الحديثة مما تُعنى به الفلسفة والتربية، وإلى انحسار اللغة العربية والاعتزاز بالهوية القومية وتردّي الرؤى الأدبية مما يُعنى به الدرس اللغوي العربي والأدب العربي، وإلى انحسار الفن، بمسرحه ورسمه وغنائه وموسيقاه ونحته مما يُعنى بها جميعاً الدرس الفني والتربية الفنية، وإلى ضياع الكثير من قيم الدين وأصوله الشرعية الحقيقية وتمثّلاته الحقة لتحل محلها مظاهر الدين وخرافاته، وإلى غير ذلك من الكثير مما أضاعته الجامعة ومن فوقها وزارة التعليم العالي، فأضاعه المجتمع والعكس صحيح. وهو ما لا يمكن أن يُعيده إلا الاهتمام التربوي والتعليمي والأكاديمي الصحيح الذي انحسر كثيراً، بل حُورب أحياناً بحجج عديدة منها ظاهر الاهتمام- وما هو باهتمام حقيقي على أية حال- بالتخصصات العلمية التطبيقية على حساب التخصصات الإنسانية. 
ولعل من أكثر التخصصات التي تعرّضت للمسّ وللتقليل من قيمتها وأهميتها اللغات وآدابها ولاسيما اللغة العربية، التي وصل قصور بعض المسؤولين من أصحاب التخصصات العلمية التطبيقية في فهمها وعدم القدرة على ربطها بالتحضّر، وبوعي الأمة وبدورها برفد هوية هذه الأمة وصولاً إلى تحفيز أبنائها للنهوض والتوسل، بخلاف فهم هؤلاء، بسبل التحضر والتقدم من العلوم المختلفة، أنْ ظنوا أن العرب يصرفون على دراسة لغتهم في مراحل الدراسة المدرسية والجامعية أكثر مما تحتاجه اللغة وأكثر مما تخصصه الأمم على دراسة لغاتها الأمر الذي جعل بعضهم يحمّل هذه الظاهرة مسؤولية عدم التقدم أو التطور أو جزءاً من هذه المسؤولية، وهو محض خطأ متأت من أمرين اثنين كثيراً ما اتصف بهما الكثير من المسؤولين وغير المسؤولين من أصحاب التخصصات العلمية التطبيقية، وهما: أولاً، قصر النظر وضيق الأفق، كما رأيناهما؛ وثانياً، عدم الاطلاع على تجارب الأمم المتحضرة والبلدان المتقدمة، التي أبداً ما أهملت لغاتها وآدابها وفنونها.
أتذكّر أن الجامعات العراقية تعرضت بداية السبعينات إلى ما يشبه الهزة بسبب ما شهدتْه من صعود كوادر الحزب الحاكم حينها في الجامعات بطرق أضعفت الأكاديمية الحقيقية وأثرّت سلبياً في رصانة الجامعة العراقية ثم في سُمعتِها عالمياً مما ستبقى تعاني منه حتى بعد أن تتم معالجة الخطأ الذي سيرتكبه النظام والجامعات حينها، بحيث أتذكر أنني حين قابلت رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر ببريطانيا لتأكيد قبولي المبدئي طالباً للدكتوراه، سألني، وكان بريطانياً من أصل مصري: هل انت خريج كلية الآداب، أم التربية بتاع البعثيين؟. المهم بالعودة إلى الهزة التي أصابت التعليم العالي والجامعات العراقية وما قادت إليه من خطورة التأثير في سمعتها عالمياً، بادر الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر حينها بشن حملة قادها بنفسه للتشديد على علمية الجامعات وراح يزورها الواحدة بعد الأخرى موجّهاً رئاسات الجامعات وعمداء الكليات وبقية مسؤولي التعليم العالي نحو الاهتمام بالأكاديمية والعلمية. وفي ظل الخوف أو محاباة النظام والمسؤولين ومركزية نظام الحكم، بادرت الجامعات العراقية إلى اتخاذ قرارات بعضها لم يفهم الأمر كما يجب بينما جاء بعض آخر ارتجالياً لإرضاء النظام أو ساذجاً يطبق التوجيه حرفياً، وكان من أبرز تلك القرارات إيقاف الدراسات العليا في جميع التخصصات الإنسانية، وكأن الذي أصاب الجامعات ببوادر الضعف والخروج على الأكيايمية هو هذه التخصصات. ولأن القرار كان خاطئاً بالطبع ولا ينم عن علمية ووعي وبُعد نظر- تماماً كما هو حال ما يصدر حالياً من بعض مسؤولي التعليم العالي ورئاسات بعض الجامعات- اكتشفتْ الجامعات، ولكن بعد أربع سنوات طويلة وثقيلة، خطأَ ذلك القرار فتم إلغاؤه. ولكنْ لأنه كان قد أصاب الجامعات في الصميم، وعلى الرغم من مرافقة صدور قرار آخر بقبول أربعة أضعاف العدد السنوي من الطلبة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه في الدراسات الإنسانية لتعويض خسارة أربع سنوات، فقد بقيت بعض تأثيرات ذلك السلبية سنوات غير قليلة بعد ذلك.
هنا نصل إلى نتيجة هي أن العداء للدراسات الإنسانية أيّاً كان الذي يمارسه هو تخلّف علمي وحضاري وقصر نظر وضيق أفق، وإننا لَنظنّه عاملاً رئيساً، ضمن عوامل أوصلت الوضع الأكاديمي لهذا التعليم خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى ما وصل إليه الآن، وتأبى الوزارة في عهدها الجديد معالجته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العمود الثامن: القاهرة واستذكار بغداد

الثلوج تنعش أسواق كردستان مؤقتاً وتحول جبالها إلى قبلة للسياح

اقــــرأ: ملامح زمن

«ساعة نهاية العالم» تقترب ثانية واحدة من «منتصف الليل»

تقدم في تأهيل مئذنة جامع الأغوات الأثري في الموصل

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram