أحيانا تُقبل على رسام يُشبع لديك حاسةَ البصر. أحياناً أخرى تُضافُ المشاعر. وثالثةً يُضاف الفكر. ومعرض الألماني آنسِلْم كيفر (مواليد1945) في الأكاديمية الملكية، ينتسب لهذا النوع الأخير. فهو فنانٌ خبط فنَّ الحداثة وما بعدها كاملاً. أعماله تتجاوز حدودَ الضخامة المعهودة (قرابة ثمانية أمتار)، وتحيط بالتقنيةِ واستخدامِ المواد المتنوعة (الرصاص، الرمل، رقائق الذهب، الأسلاك النحاسية، كسر الفخار، القشّ، الخشب، وحتى الماس..). ويستخدم الكولاج، الذي يبدو فائضاً عن الحاجة أحيانا، أو مُقحماً. ولكن عبر كل هذا تصلُ لوحته إليك بيسرِ اللوحة الانطباعية، ومُضطربِ اللوحة التعبيرية، ومركّبِ العمل المفاهيمي. لقد بدوتُ بين اثنتي عشرة قاعة ضخمة وكأني قطعت شوطاً مع التاريخ الداخلي للانسان، بالرغم من أن المحاورَ التي تتجاذب مسيرة الفنان أوربيةٌ في الظاهر. وإلا أين تضع لوحتيْ بلاد ما بين النهرين اللتين تحتلان القاعة رقم خمسة: زقورة، وجدار من اللبِنِ البابلي المفخور؟
إن "كيفر" يطمع بإحاطةٍ للتاريخ من زاوية نظر دائرية لا استقامة خيطية، تنطلق من تراجيديا الألماني فيه: صعود النازية، والحرب، لتستدير عبر معنى الحياة الأرضية، والعلاقة مع السماء، ووطأة التاريخ الانساني. وهناك ما يدعم هذه الرؤى من هيمنة النازية وحربها الطاحنة، التي حاولت المرحلةُ التالية محوَها من الذاكرة، فالفنانُ في عددٍ من اللوحات يصور نفسه، وهو يرتدي لباسَ والده العسكري، مؤدياً التحية النازية خارج الكولسيوم في روما وفي أمكنة أخرى. أو يمخر عبر أساطير ألمانية، وموسيقى ﭭاﮔنر ضمناً في رباعيته "الخاتم"، وأساطير شرق أوسطية (علاقة الطين والعمارة بالكتابة في سومر، والموت والبعث في أوسيريس وإيسيس في مصر،) حتى لتبدو خرائبُ الحرب الحديثةِ صدى لتلك. إن هذا النبش من أجل المعنى المُدرك جاء "كيفر" بفعل تعلقه بالكتاب، دليلِ المعرفة، منذ صباه. فهناك إلى جانب الأعمالِ الجبسية التي صبها ككتب مفتوحة، هناك كتب مغلقة، ومتراكمة محشورة أو موزعة على سطح المشاهد الطبيعية، الثلجية في أكثر الأحيان، في اللوحات الكبرى. وهو كثيرُ الاستيحاء من الشعراء، الفلاسفة، العلماء والكتّاب طوال حياته، ولذلك فأنت تطمع في كل عنصر من عناصر لوحته بمضمون رمزي.
في السبعينات والثمانينات عُني "كيفر" بمناظر من التاريخ الألماني ومباني الرايخ الثالث المهيبة خاصة. ولكنها في عمارتها ونسيجها توحي بخرائبَ قادمة. وفي واحدة من السلسلة الضخمة تجد الفنان مُمَثلاً بباليتة رسم معزولة ومثبتة وسط اللوحة. ولكنه مع الطبيعة تجده ممدداً دائماً تحت ظل أزهار عباد الشمس، الأزهار التي تلاحق دورةَ الشمس، مجسِّدةً الرابط بين السماء والأرض، والولادة ـــ الموت ـــ البعث. يقول الفنان "حين أنظر إلى أزهار عباد شمس ثقيلة، ناضجة منحنية إلى الأرض بحبوب مسودّة.. أرى القبةَ السماوية والكواكب." وهذا صدى لبعض المعتقدات العلمية في العصور الوسطى. هناك لوحةٌ بالغة الضخامة، ومدهشة بعنوان "زهرة الرماد" استغرقت 14 سنة من العمل: رؤية ﭙانورامية لبهو ضخم فارغ، جدرانُه نسيج من لبِنِ الطين المتصدّع، بذورِ عباد الشمس، رمادٍ، طبقاتِ زيت سميكٍ، وأكريليك. في وسط اللوحة يمتد منحدراً ساقُ عباد شمس طويل جاف بزهرته المتدلية كرأس إنسان مُعلق. وعلى اتساع اللوحة انقاض ومخلفات حضارة منهارة. وفي هذه المرحلة ذاتها كان "كيفر" يتحرك بين عالمي الشعر والرسم، حيث يرى القصائدَ "أشبه بعوامات في البحر. أسبح باتجاهها، وبين بعضها البعض: وبدونها أجد نفسي ضائعاً." وفي لوحتين يصاحب الشاعر بول تسيلان الذي انتحر عام 1970، خلال قصيدته الشهيرة "فيوك الموت":
حليبُ الصباح الأسود نحنُ نشربُه عند الغسق
نحنُ نشربُك وقتَ الظهيرة والفجرِ نشربُك ليلاً
نحنُ نشربُ ونشرب
نحنُ نحفُرُ قبراً في السماء حيث فسحة للتمدد..
في قاعةِ المعرض الأخيرة مجازٌ طويل ولكن متعرج، من عمل خشبي قائمٍ كجدار، يتدفق فيه نهرُ الراين عبر غابات ألمانيا، ولكن عبر مؤثرات لم يغفلْها "كيفر" في فنه وحياته: شعر كوته، تسيلان، وفن دورر. إلى جانب البوتقات النارية، والرموز الدينية، وخرائب الحرب...
"كيفر": فنان بحجم الحداثة وما بعدها
[post-views]
نشر في: 22 مارس, 2015: 09:01 م