TOP

جريدة المدى > عام > الواقع الفائق للنسخة الشبيهة..قراءة في صور فوتوغرافية لجان بودريار

الواقع الفائق للنسخة الشبيهة..قراءة في صور فوتوغرافية لجان بودريار

نشر في: 24 مارس, 2015: 12:01 ص

وانت تشاهد ثلاثين صورة لبودريار على الويب تدرك تعايش العوالم التي يخلقها الكومبيوتر في العلم أو في اللعب، وتقارن بين مقولة بول كلوديل: العين تسمع. ومقولة جاك فونتاني: العين تلمس. وبين مقولة مالارميه: العين يد للتصوير. بعدها يتكسّر في مخيلتك العمود ال

وانت تشاهد ثلاثين صورة لبودريار على الويب تدرك تعايش العوالم التي يخلقها الكومبيوتر في العلم أو في اللعب، وتقارن بين مقولة بول كلوديل: العين تسمع. ومقولة جاك فونتاني: العين تلمس. وبين مقولة مالارميه: العين يد للتصوير.
بعدها يتكسّر في مخيلتك العمود الشعري في المقولة العربية المأثورة "وما راءٍ كمن سمعا" لتصبح " وما سامع كمن رأى". وعلى متن مثل هذه المقولات تتحول بمشاهداتك لخزائن الصور التي تصيبك بالعمى، حيث عالم الصور الحالي يحول الكائنات إلى ذريعة، إلى مجرد علامات يتم تأليفها وتوليفها تبعاً لمنطق الاخفاء والكشف، وتبعاً للعبة كبرى هي الاستمتاع بالصورة، والالتذاذ بها، في حضورها، بحيث ان كل شيء يخضع لمنطق الحضور، تتحول الصورة إلى حجاب لواقع تدعي أنها المعبرة الحقيقية عنه. تتحول الصورة من كونها حافظة لأثر ما الى صورة تخفي أثراً ما، ومن صورة تلبي حاجة تحسينية، الى صورة تعرض خوفاً ورعباً افتراضياً.

النَسخة الشبيهة هي الحقيقية
في حوار لبودريار الذي اقترن اسمه بمفهوم ما فوق الحقيقة ويعني به أن يكون الأمر أكثر حقيقة من الحقيقة نفسها. يقول: ان الفن تحول تحولاً جذرياً باتجاه الحرفية التمثيلية، أو ما يصفه هو بفقدان الفن لموقعه التقليدي كطلب رمزي للثقافة، فقد صار ضمن حرفية الحقيقة، وفي الواقع الفائق، وهذه الحالة الأخيرة التي لا تمثل تطوراً للفن، بل التفافاً نحو الداخل، إذ يعترف بأن طلب الثقافي كان من قبل وهماً، لكننا الآن فقدنا هذا الوهم في تلك الحرفية الواقعية الجديدة التي تعتبر الشيء فريداً، والمحاكاة حقيقة متضمنة دون طلب يكرس لانعزال الثقافي عن الحرفي، التمثيلي بحد ذاته. ومن فقدان الوهم السابق لدى بودريار يبدع الفن امثولة فيما يشبه الثقافي، ويقاومه ألا وهو الواقع الحرفي بما فيه من تمثيل، وتشبيهات.
وقد استهل كتابه " النُسَخ الشبيهة والمُحاكاة " بحكمة توراتية منسوبة الى الملك سليمان: " إن النَسْخَة - الشَبيهة لا تُخفي الحقيقي أبداً، بل إن الحقيقي هو الذي يُخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إن النَسْخَة - الشَبيهة هي حقيقية ". وجَعَل من تلك العبارة، مدخلاً لشرح مفهومه عن "الواقع الفائق " الذي شرحه باستعادة مثال من حكاية للروائي خورخي بورخيس عن امبراطور قرّر صُنع خريطة تُظهر تفاصيل مملكته كلّها بدقة متناهية، وكانت النتيجة أن جاءت الخريطة بقدر مساحة الامبراطورية نفسها. ويرى أن المجتمعات ما بعد الصناعية أدخلت الاستعارة التي تتضمنها حكاية بورخيس في دورة كاملة بحيث وصلت الى عكسها ونفيها، لم تعد النَسْخَة - الشَبيهة صورة في المرآة عن أصل ما، وبالتالي إشارة عنه، وتعدى أمر النَسْخَة - الشَبيهة أيضاً أنها استقلت وانفصلت عن أي أصل وكذلك فإنها لم تعد تشير الى "أصل" موجود، وبذا صارت إشارة الى اختفاء الوجود نفسه. وهكذا، وصل الأمر الى أن الواقع نفسه صار يُصنع كلياً من تناسل تلك النُسَخ - الشَبيهة، التي تنفي وجود الواقع، وتلك هي نواة فكرة "الواقع الفائق" الذي تعيشه المجتمعات الحديثة بفضل افتراضية الكومبيوتر والصور الرقمية.

الجسم الذي لم يعد هناك
من المعلوم أن عالم الكومبيوتر "جاردن لاينر" هو من صاغ مصطلح العالم الافتراضي، تعبيراً عن شعور مستخدم الكومبيوتر، وهو في حالة التباس بين وهم الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي، فيصير هو نفسه هذا الواقع، لينهض الواقع الافتراضي أو الخلـّبي كما تسميه فريال مهنا " مما يؤدي إلى انغماس المتلقي في سياق العمل، مع تبادلية مستمرة في الأدوار بين المرسل وهذا المتلقي". مع العالم الافتراضي والعالم الرقمي يتفتق القول إلى الفضاء اللانهائي، الفضاء التكنولوجي الذي يتحكم فيه الكومبيوتر والانترنت والتكنولوجيا الافتراضية، حيث عالم الشبكة العنكبوتية والجغرافية البصرية، وحيث يختفي القرب والبعد، وتقوم متاهة الصور اللامتناهية ويقوم الصراع بين اللغة والصورة.
هذا ما نستشفه من حديث بودريار عن بعض ممارساته للتصوير في ترجمته المادية للغياب الكامن في موضوع الصورة، فقال عن لقطة السيارة الغارقة في المياه، والكرسي الفارغ، إنهما تعبران عن الشكل الافتراضي للجسم الذي لم يعد هناك.

ثلاث صور
1. كرسي فارغ وملاءة حمراء
صورة يبدو فيها الكرسي فارغاً، عليه ملاءة حمراء، تمثل الأثر، أو التكوين في ثورته التشبيهية على حضوره المركزي المطلق كما هو في الفوتوغرافيا التقليدية، هل هو تفجير للموضوع للاحتفاظ بطاقة الأثر المدمرة للحدود من داخل تعيينها في لحظة اختفاء ليس فيها زوالاً، وربما بين الإخبار والاشارة يوجد معنى ثالث للصورة هو غياب القديس واختفاء ارادته، لا ادري لماذا أرى الملاءة الحمراء كأنها رداء لقديس هارب، وهذه دلالة صريحة وواضحة لعطل الكنيسة، والبرهان الساطع على الغياب، لقد دلت الصورة على ان مجد الغرب يكمن في انه حدس بالعدم واختراع للموت.
2. تخوم لا حدود لها
صورة لحدود طباشيرية للبشر على الحائط دونما امتلاء، وكأن الحدود تنطوي على فراغ ثوري يشكل طاقتها الخفية، هل هو القوة في مجال التكوين العابر للحدود؟ أم أنه التشبيه حال ظهوره كبديل عن المركز؟ وحين نظرت للصورة مرة أخرى وبتأمل دقيق وجدت إشارات أخرى، المصاطب الفارغة، والعلامات الخضراء البعيدة، شعرت بالغياب النافذ في الصورة وهو الرقاد الرديء للكينونة المبتذلة التي لابد ان تقع وهي يائسة، بشر يريدون الهروب عبر الحدود المحاذية للسماء، الى اين؟ لم يكن السؤال واضحاً في ذهني، المعنى غير محدد ولكنه ذو صلة بالقناع الذي يصنعه بودريار.
3. الباستيل مقلوباً في كأس
صورة يبدو فيها الباستيل مقلوباً في كأس على منضــدة، وكأن النسخة البديلة عن الموضوع توشك أن تحطم التعالي، والانتصاب في فراغ الكأس، والتشبيه معاً، هناك أثر من تحقير جميل، وليس هناك من يستبدل الحزن يجب ان يظل المعنى الواضح ثورياً ليبعث السخرية فيما يخص عنجهية السلطة والاحكام الشاحبة، بنفي الحياة وإفراغها من محتواها، بشر في سجن رهيب مقلوب، تمزقات وقطيعة، مسيرة في متاهة السديم، بشاعة، واضطراب نهم الى التهام الكائن البشري، جرح عدم نازف.

المعنـى الثالث
إن صور بودريار عابرة للزمن، بل إنها ترصد الزمن في تجاوزها الطبيعي لحدودها باتجاه فراغ، أو اختفاء، لصلابة معناها الثالث المتأرجح بين الإخبار والإشارة والرمز ما يعزز من الانتشار الدلالي الحقيقي للعلامات في المجال العابر لحدود الإطار، لا بوصفه عدماً، وإنما بتغييبه لمركزية الظهور، والانفصال، في اتجاه تكاثر الأثر، والتباسه الأول بالاختفاء، فمنهما معاً تتحطم الحدود، ويكون الشيء في حالة من التهيؤ لأن يظهر، أو يترك أثراً يقاوم اكتمال الظهور دائماً، فيبدو فاعلاً ولكن من خلال صورة أخرى تشبهه وتشكل وجوده معاً، وهو طلب مقدس للقوة، يختفي في الأثر، وهو التشبيه المتكرر ببقائها كبديل عن حضورها المطلق المهدد بالغياب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

كتائب القسام تعلن "استشهاد" قائدها محمد الضيف

ترامب: لم ينج أحد من حادث اصطدام المروحية وطائرة الركاب قرب مطار ريغان

"الاتفاق غائب".. تعديل الموازنة يدفع الى انقسام نيابي

برشلونة يعلن رسميا تجديد عقد بيدري حتى 2030

مكتب السيستاني: يوم غد الجمعة هو الأول من شهر شعبان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram