صديقي الشاعر مؤيد الراوي في حال تدعو إلى القلق.
الشاعر، دائماً، يدعو إلى القلق. الاطمئنان لا يليق بالشعراء إلا (استثناء) بما يتعلق بالعافية. وعافية مؤيد تدعو للقلق. لكنني قرأت، مرة أن الشعر يصلح علاجاً كتبها باحث أميركي مختص أشرف على علاج أشخاص بالشعر. قال لهم اكتبوا ما تعتقدونه شعراً للتعبير عن أنفسكم فكتبوا لتجيء النتائج مدهشة.
أوقول لمؤيد: اكتب شعراَ.
دواء الطبيب مفيد حتماً.. لكن كتابة الشعر تمنح المرء طاقة تنبعث من مكان مجهول داخل الجسد لتجعله قوياً.
ومؤيد الراوي من الشعراء القليلين جداً الذين جعلوا الشعر شأناً شخصياً لا يمت إلى متطلبات السرديات الكبرى والآيديولوجيات الشائعة رغم أن الراوي مناضل بطريقته الخاصة إذ جعل من الكلمات يافطة شخصية جداً للتعبير عن شأن عام قدر ما هو خاص جداً.
عندما كتبت عن ديوانه الثاني "احتمالات الوضوح" في بغداد أواخر السبعينات، في صحيفة "الفكر الجديد" الأسبوعية أدركت معنى التحدي ثلاث مرات: الأولى هي الكتابة عن شاعر لا أعرفه شخصياً لكن نصه هو ما حرضني على الكتابة قدر ما اختزنه من لغة شعرية خارج سياق تقاليدنا الشعرية في صورتها المكرسة نقدياً ورسمياً، وقد وضع قصيدة النثر، مبكراً، في مكانها الصحيح.
الثانية هي تحدٍّ شخصي في أن يكتب شاعر شاب، آنذاك، عن شاعر مهم وإن لم يكن نجماً، محاولاً تفكيك نص ليس بالسهل أبداً، إنما هو نص صعب وعميق يغرد خارج سرب القصيدة العربية المتداولة وأقرب إلى الشعر الغربي المأخوذ بالأفكار لا العواطف.
الثالثة كانت أن أرفع هذا الديوان يافطة في تظاهرة شعرية لم يشاركني فيها أحد ضد سلطة البعث الفاشي، فالكتابة عن شاعر مثل مؤيد الراوي، في تلك الفترة المظلمة، كافية لأن تستفز سلطة الدكتاتوريين وشعرائهم وإعلامهم وجمهرة الأبواق الكبيرة في فضاء بدأ يضيق علينا نحن الذين جعلتنا تلك السلطة أهدافاً يومية للقنص والتغييب والطرد.
.. وإذ تحين لحظة اللقاء في بيروت (أثناء الحرب الأهلية) اكتشفت في مؤيد الراوي تلك الطاقة الهائلة على العمل.. كان سكرتير التحرير للمجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية (فلسطين الثورة) إذ لم يكن يغادر عمله إلا في ساعة متأخرة من الليل: يكتب ويرسم ويصحح ويصمم. كان الشاعر في مهمة قتالية لكنه لم يغادر لغته ولم يستسلم لأحد وجهي حياته: العمل اليومي والفن.. كان كليهما حيث يضيء أحدهما الآخر.
تتشكل "رابطة الكتاب والفنانين الديمقراطيين العراقيين" في بيروت، عام 1980، وتصدر عنها مجلة "البديل" فكان مؤيد في قلب العمل الثقافي والإعلامي رغم المشكلات العويصة التي رافقت عملنا في هذه الرابطة والمجلة معاً.
كانت شقته في "الفاكهاني"، عاصمة الثورة الفلسطينية ببيروت، فضاء للحوار والجدل والكرم أيضاً، حيث فخرية البرزنجي، زوجته، ليست بعيدة عن حواراتنا وزعرنتنا، بل كانت أكثر من صديقة وأخت ومحاورة مهمومة بالثورة والحرية والعراق أيضاً.
تمر السنوات بعد بيروت، يمضي مؤيد وفخرية إلى ألمانيا، ونمضي نحن إلى أرض الله الضيقة لنقيم في منافٍ أخرى.. لكن التواصل يدوم ونزور بيت مؤيد في برلين حيث دفء البيت واستمرارية الحوار.
يأتي مؤيد الراوي إلى لندن لأجد في بطالتي ما يغنيها ثقافياً وإبداعياً لأن مؤيد الراوي يتلفن ويأتي شقتي الصغيرة لنمضي أوقاتاً طويلة في الحوار والجدل وتبادل الأفكار، مع أكواب الشاي التي لا تتوقف "كم كان مؤيد يحب الشاي!" وكم كان مؤيد مليئاً ومثقفاً وصادقاً وهو يلتقط لحظة الإبداع أو معضلة الحرية أو ذكريات الستينات فهو أفضل شهودها وأكثرهم مهنية في كتابة "خبر" الحرية أو "وهم" الحرية الذي لازم العراق ومثقفيه وسياسييه.
سلامات يا مؤيد ولنمض في "نزهة في غواصة" لعلنا نبلغ تلك "الممالك".. ممالكك.
مؤيد الراوي.. سلامات!
[post-views]
نشر في: 23 مارس, 2015: 09:01 م