TOP

جريدة المدى > سينما > علم جمال السينما..(السينما الصافية) أنموذجاً

علم جمال السينما..(السينما الصافية) أنموذجاً

نشر في: 26 مارس, 2015: 12:01 ص

إن المرحلة في التنظير الجمالي التي استغرقت قرنين من الزمان قد انقضت بنا الى أن الخبرة الجمالية والنتاج الجمالي من بعدها ليسا مجرد إحساس آلي بالموضوع وعكسه بطريقة جامدة، وبالتالي فلم تعد تلك المعطيات الطبيعية إلا مجرد حوافز ينطلق منها الفنان لخلق صور

إن المرحلة في التنظير الجمالي التي استغرقت قرنين من الزمان قد انقضت بنا الى أن الخبرة الجمالية والنتاج الجمالي من بعدها ليسا مجرد إحساس آلي بالموضوع وعكسه بطريقة جامدة، وبالتالي فلم تعد تلك المعطيات الطبيعية إلا مجرد حوافز ينطلق منها الفنان لخلق صور من ابتداعه هو نفسه، فالتنظير الجمالي الحديث بمجمله أدى الى رفض التقليد أو المحاكاة بدعوى أن المهم في الفن هو تلك الرغبة العارمة في خلق نسق من الصور الحيوية على حدِ تعبير (هربرت ريد).
 
أما (بيكاسو) فيقول (إن الفن كما هو معروف ليس هو الحقيقة لكنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة أو على الأقل تلك الحقيقة التي كتب لنا أن نفهمها)، والواقع أن التنظير الجمالي كان مرفوعاً الى هذا الموقف لا لمجرد التأملات في الفن حسب، ولكن من منطلق الثورة الصناعية التي غيّرت من نظرتنا كليـاً الى العالم فلم يعد الفكر البشري على تلك الثقة الراسخة بمفهومها عن الكون، بل أن النظرة القديمة قد اهتزت من جذورها بعد اكتشاف الذرة كحجر أساس في بناء الكون ونظريات النسبية والكم التي فتحت الباب على مصراعيه لنظريات لا يعلم أحد الى أين ستنتهي...إلا أن مهمة الفنان الحديث كما يقول (جون جبرت) لا تنحصر في محاكاة ما يريد إبداعه فالواقع أن الفنان لا يقلـِّد الظواهر وإنما الظاهر هي النتيجة التي يتوصل إليها، فلكي يكون التصوير محاكاة أو تقليداً ينبغي له عندئذ أن يتناسى الظواهر. ويرى الباحثون أن هذا القول يعبـِّر عن واقعية جديدة يفسرها (باك): بأن المسألة في الفن لم تكن يوما في الفن التشكيلي أو الشعراء أو الموسيقى، مسألة تمثيل شيء ما وإنما المهم هو خلق شيء مؤثر جميل أو دراماتيكي وهذا أمر مختلف كل الاختلاف. 
وبهذا المعنى يكون تصوير الطبيعة كما هي خيانة للحقيقة وللطبيعة في آنٍ معا، بل لابـد من مستوى معين من التجديد يقترب بنا من الحقيقة وهكذا تذوب الفواصل بين الطبيعة والتجريدية كما تشير مقولة الفنان التجريدي (بيت موندريان) التي تنص على : أن الفن التجريدي يتعارض مع التصوير الطبيعي للأشياء ولكنه لا يتعارض مع الطبيعة نفسها كما وقع في ظن الكثيرين .
وهكذا نرى أن معظم الفنانين المعاصرين يميلون إلى رفض النظرية التقليدية في الفن وهي تلك النظرية التي تقول بمحاكاة الطبيعة.
ولما بقي حلم الحركة يراود الإنسان منذ اللحظات الأولى التي وصلت فيه الإنسانية الى مراحل النضج حتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، برغم محاولاته المستمرة في فن الرسم عن طريق خلق الإيهام بالحركة عبر لوحات عـدة لنفس الموضوع "ففي مكان ضيق ووحيد واكب الفنان لحظات متتابعة من اليمين الى اليسار: القديس دنيس واقفاً أمام النطع، ثم راكعاً وقد حزَّ في عنقه سيف الجلاد، وأخيرا جثته ممددة وراء النطع وقد تدحرجت الرأس الى المنظر القريب في مقدمة الرسم، وهناك أذن واحدة تشكيلية كبيرة ... مع وجود تتابع درامي"القديس ثلاث مرات" وما أن اكتشفت السينما كصناعة حتى حققت الإبهار من خلال خرق القوانين الفيزيائية عن طريق التلاعب بالزمن من خلال الخدع السينمائية (التسريع والتبطيء) بالحركة، ومن ثم قدرتها العجيبة على بناء واقع جديد (الماوراء واقع) من خلال تجسيد الأحلام والهلوسات والجنس والفوضى والأشباح ...الخ. إن تجسيد الحركة من خلال واقع مرئي جعل الإنسان في ذلك الوقت يقف أمامها وعلامة التعجب تدور في ذهنه.
وبرغم أن البعض كان يعـد الكاميرا آلة تسجيل، تشبه في عملها المسرح، إلا أن الأخوة لوميير الذي صنع سنة 1895 بضعة واثنى عشر فلماً، قد تميزوا في تسجيل بعض الأفلام من أهمها وصول القطار، والرشاش المرشوش، اللذان نالا شُهرة حتى أن الفلم (وصول القطار) أحدث الرعب في قلوب الجمهور عندما تقدم من أقصى الشاشة الى أمامها... وخلال عمر ناهز الثالثة والسبعين عاماً أخرج ميلييه (1861- 1938) قرابة خمسمائة فلم، كلها من نوع الأفلام القصيرة لم يبقَ منها سوى خمسين، أحسنها هو فلم (رحلة الى القمر) عام 1902، ومثلهما الكثير.
وإذ بدأت السينما تكتمل النضج بعد أن تخصص بعض الفنانين في مجال الصورة المتحركة (السينماتوغراف) وتركهم للعمل في المسرح، ومن ثم بدأت تتحول تدريجيا السينما من الارتجال الى اكتشاف جوانبها الفنية مثل المونتاج، وكتابة النص ومن ثم وجود مخرج وممثلين، عندها حدث تحول جوهري في هذا الفن الوليد، بعد أن ركزت أغلب أركانه في ذلك الوقت باستثناء الصوت واللون في هذا الوقت، وراحت السينما بعد أن شاعت في العالم الغربي بعمومه تدور كاميراتها لتسجل آلاف الأفلام، فقد سجل "أول فلم كاوبوي حقيقي للمخرج (إدوين إس.بورتر) بعنوان سرقة القطار الكبرى (1903) ... ومن بين أبطال ذلك الفلم (جلبرت إم. أندرسون) (1883-1971) ...الذي لعب دور شخصية (برونكو بيلي) في ذلك الفلم، وهي شخصية ابتدعها بالأصل الروائي (بيتر بي. كاين) لروايته (برونكو بيلي والفتى) (1908) مستحدثاً بذلك أول بطل كاوبوي سُجلت مغامراته فيما لا يقل عن 300 فلم قصير " .
وكانت كل تلك الأفلام قد صنعت من أجل التسلية والمتعة، ومن ثم اعتبارها كسلعة ينتظر من ورائها الربح، وبالتوازي مع ذلك الفهم، خرجت مجموعة ممن يهتمون بعلم جمال السينما، تطرح مجموعة من الأسئلة، هل أن غائية السينما هو نسخ الواقع، أسوة بالفنون الأخرى باعتبارها الفن السابع كما أطلق عليها ذلك (كانودو)، الذي يحتوي الفنون الستة والتي تنحل من الواقع مادتها أم أن لها القدرة على تخطي ذلك الواقع الى الحلم؟ 
"ففي عام 1925 قامت حركة طليعية في فرنسا، معادية للسينما الوصفية، التي تعتمد على الحكاية والسرد القصصي، وراحت هذه الحركة تشيد بالصورة على اعتبارها غاية في ذاتها، وبدأت تهتم بالفلم التجريدي وترعاه، وعُرفت هذه الحركة باسم (السينما البحتة) التي لا تعتمد على الأدب أو المسرح، وإنما تعتمد ذاتيتها وجوها الخاص، الذي أعطى مجالا حقيقيا، لانطلاق الخيال السينمائي البحت، وقد عُرفت في بعض الأحيان باسم (السينما البصرية) لأنها تعتمد على تدرجات الضوء بين الظل والنور وعلى الإيقاع والشكل، وكلها وسائل بصرية خالصة مثل (البالية الميكانيكي) للمصور فرناند ليجه Ballet mecanique par Fernand Leger و(العودة الى العقل) للمصور Le Retour a Ia raison par Man Ray. والسينما الخالصة قريبة الشبه جداً، بما أسماه دزيخا فيرتوف Dziga Vertov في التاريخ نفسه تقريبا بعين السينما أو سينما العين. والفلم المطلق يتضمن رسوما وتشكيلات متحركة، قد لا يعبر الواحد منها عن معنى أو تعبير، ولكنها في مجموعها تحمل معنى وتعبيراً عن جو نفسي أو خيال معين، مثل المرحلة الأولى من فلم (فانتازيا) لوالت دزني عام 1941".
ومن الذين تبنوا هذا المفهوم (السينما الصافية) هم: آبيل غانس، ومارسيل شووب، وجان أبشتاين، ورينيه كلير، وأيلي فور، وجرمين دولاك والأخيرة تقول في" كتابها (الأفلام البصرية واللابصرية: إن للسينما والموسيقى رابطاً مشتركاً: حيث بإمكان الحركة وحدها أن تخلق التأثير المطلوب عبر إيقاعها وتطورها، تلك هي قناعة جرمان دولاك الأساسية (أن الحركة في اتساعها هي التي تخلق البُعـد الدرامي) وهي بهذا تصل الى مفهوم الحركة الصافية، التي تكون، بمعنى ما، متحررة من كل تجسد مفرط في ماديته يؤدي الى الهبوط بها. (إن التعبير الذي ينبغي الوصول اليه يجب أن يبزغ وحسب من التناسقات البصرية الرؤيوية، يجب البحث عن التأثير المطلوب في المعنى البصري وحده" .
وقد انضوت تحت عباءة الموجة الجديدة للسينما الطليعية مجموعة مدارس، منها المدرسة الدادائية التي انبثقت عن المدرسة التكعيبية التي طوّرت فكرة التمزق ليس في الرسم والنحت وحدهما ، بل في الأدب والسينما، وهي في كل تنظيراتها تعـد متطرفة حتى عُدَّ أصحابُها مجانين، ومن الذين أنتجوا أفلاما تحت المدرسة الدادائية هم: المخرج (ميل بروكس) وفلمه (السروج الملتهبة) والمخرج (نورمان ماكلارن) وفلمه (الجيران)، والمخرج (مان راي) وفلمه (العودة الى العقل)، والمخرج رينيه كلير وفلمه (بين الفصول) والمخرج فلانارد ليجيه وفلمه (الباليه الميكانيكي)...الخ.
وكذلك المدرسة السريالية التي لا تختلف كثيرا عن المدرسة الدادائية، في اشتملاها على رسامين وكتـّاب بالإضافة الى صانعي الأفلام، "وربما كان (أندريه بريتون) هو الشخصية المركزية في الحركة الجديدة وهو عالم نفسي وشاعر أصدر البيان السريالي (ما بعد الواقعية) عام 1924" . ومن أهم مخرجي هذه المدرسة هم لويس بويونيل وسلفادور دالي (الكلب الأندلسي) وجان كوكتو (دم شاعر). 
أما رينيه شووب فيلحُ "على واقع أن الجمال ذا الدلالة التي تتمتع به الصور المتحركة، بإمكانه أن يكون مستقلا عن الموضوع وعن الوصف، بحيث تكون مهمته إنجاز بُعـد تشكيلي للديمومة الزمنية. إن الأفلام تحتوي (على شكل حركات، على لا نهاية داخلية في اللغة التي تشكلها الحركات) ومن الطبيعي أن يكون هذا الكاتب قد وصل الى حـد التفكير بأنه بدلا من الفلم السائد المنبني على فعل درامي، يفضل فلماً تكون شخصياته الوحيدة كتلات من الضوء منظوراً إليها على شكل تركيبات مؤثرة.. دراما خالية من أي تعبير عاطفي، تتطور عبر التعارض بين الأضواء التي تحل كميتها العجائبية محل كل تعبير" . 
إلا أن هذه التنظيرات كلها كانت عندما كانت السينما بلا صوت وبلا لون، بالإضافة الى غياب التطور الحقيقي لحياة الإنسان التقنية بكل تداخلاتها العلمية إبتداءً من التلفزيون وصولا الى الإنترنيت والقادم أعظم..ومع ذلك استمرت هذه الحركة الطليعية التي منها السينما الصافية بعد ذلك "فقد بدأ (جان كوكتو) و(هانز ريختر) مثلا صناعة الأفلام في العشرينات ولم يتوقفا إلا في الستينات، (لويس بونيويل) لا يزال ينتج أفلاماً ممتازة برغم أنها ليست طليعية متطرفة كما كانت في العشرينات والثلاثينات" .
وفي الختام أعتقد أن مثل هذه الموجة الجديدة وبالخصوص (السينما الصافية) من الصعب أن تلقى لها رواجاً جماهيرياً وأكاديمياً يدفع أجرة التذكرة ليرى إرهاصات بعض المخرجين ، فمن الصعب اليوم إنتاج فلم ينضوي تحت عنوان (الفلم المجرد) الذي ليس فيه محتوى حقيقي وإنما يتكون من أشكال (بحتة)..فقد أصر ريختر على أن الأقرباء الطبيعيين للفلم ليس الأدب والدراما وإنما الفن التجريدي والرقص والموسيقى التجريديين، مثلما من الصعب أن يجد له منتجين بعد أن أصبحت السينما صناعة مُكلفة، ولكن كان لزاما على المتخصصين أن ينيروا صفحة مهمة من مراحل التحول الذي مرت بها السينما هذا الفن الكبير، ولا زالت تلك المرحلة من الموجة الجديدة مستمرة برغم إنها يكاد ينحصر وجودها في أميركا وبعض دول أوروبا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

جلسة "القوانين الجدلية" تحت مطرقة الاتحادية.. نواب "غاضبون": لم يكن هناك تصويت!

القانونية النيابية تكشف عن الفئات غير مشمولة بتعديل قانون العفو العام

نيمار يطلب الرحيل عن الهلال السعودي

إنهاء تكليف رئيس هيئة الكمارك (وثيقة)

الخنجر: سنعيد نازحي جرف الصخر والعوجة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

السينما كفن كافكاوي

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram