في شبابي كنت من المدمنين على قراءة كل ما يصل من الصحف والمجلات العربية، في ذلك الزمان كنت مغرماً بكامل الزهيري وزاويته من ثقب الباب التي ينشرها في مجلة المصور، وأتابع بشغف ما يكتبه صلاح حافظ في صباح الخير، وكان محمود السعدني يكتب في روز اليوسف عن مضحكات مصر.
وأتذكر أنني تابعت معركة إعلامية كبيرة جرت وقائعها على صفحات جريدة الأهرام بين أحمد بهاء الدين الذي كان يكتب عموداً يومياً في الصفحة الاخيرة، وأحد وزراء مصر لا أتذكر اسمه، كان عنوان المعركة: هل من حق الإعلام أن ينشر أسماء مصادره على الملأ، فقد رأى الراحل بهاء الدين، ان الخبر الصحفي لايكتمل بدون مصدر واضح ومعلوم ، فيما أصرّ المسؤول المصري على ان بعض الأسرار تضر بمصادرها،ولهذا من حق المصدر ان لايبوح باسمه.
بالأمس وأنا أقرأ عدداً من الصحف العرقية، وجدت ان معظمها يعيش عصر " مصدر رفض الكشف عن اسمه " الخبر الرئيس يخبرنا أصحابه ان مفاوضات تقودها أميركا ودول عربية لإنقاذ داعش في تكريت، أما المصدر فهو جملة من ثلاث كلمات: صرّح مصدر مقرّب.
هناك نصيحة يسديها الروائي جورج أورويل إلى صحفي شاب: " عليك ان تدرك أن الإعلام يجب ان يتحوّل من الخديعة إلى الحقيقة "، اليوم صار التلفزيون في كل بيت ومعه صور الخراب والموت وتجار الحروب. لكننا في العراق لا نزال نصرُّ على أن نعيش في زمن أحمد سعيد وحكايات محمد سعيد الصحاف.. لا يريد البعض أن يدرك أن الإعلام قد دخل عصر الحقائق، وأن غوبلز وبطانته أصبحوا من الماضي.
في رواياته "الصعود إلى الهواء" يحاول أورويل الإجابة عن سؤال مهم " كيف يحارب الإعلام الوحوش ".. كان هذا السؤال يؤرق صاحب مزرعة الحيوانات وهو يرى صعود الافكار النازية والفاشية، لذلك نراه يروي لنا على لسان بطل الرواية كيف انه دعي للاستماع الى محاضرة بعنوان "خطر الفاشية" يلقيها خطيب قادم من نعيم لندن يريد ان يبثّ العزيمة في نفوس البسطاء والضعفاء، بعد أن يستمع البطل إلى المحاضرة نراه يصف لأحد اصدقائه شكل هذا الخطيب "كان صوته يصلني على شكل غير مفهوم، وكانت تأسرني من حين لآخر عبارات،مثل الوحشية والبهيمية والنوبات الشنيعة من السادية والعودة إلى عصور الظلام... استمتعت برؤية هذا الرجل ذي الوجه الأبيض والرأس الأصلع وهو واقف على المنبر يطلق الشعارات. بشكل صارخ، باذلاً أقصى جهده لجعلك تكره كل من حولك، غريب جدا منطق هذا السيد المشهور، لقد أصبحت الخطابة صنعة ومهنة غريبة ".
وأنا أقلّب صفحات الرواية تساءلت مع نفسي كم إعلامي مثل هذا الاصلع يعيش بيننا، ممن لا يجدون غير لعبة المصدر المجهول، وقبل ان أجيبك على هذا التساؤل، أنقل لك توصيف بطل أورويل الى أداء هذا الخطيب فيقول " توقفت عن سماع كلمات المحاضر الذي يمكنه الاستمرار في الكلام لمدة شهر دون توقف.. شيء فظيع. كأنه أورغ بشري يطلق نفس الدعايات عليك على مدار الساعة المرّة تلو الأخرى مكرراً الكره الكره الكره. حتى تشعر بأن شيئاً ما دخل إلى جمجمتك وهو يطرق على دماغك بقوة.. أغمضت عينيّ للحظة وقلبت الطاولة عليه فدخلت إلى جمجمته لمدة ثانية، رأيته يتخيل نفسه وهو يُحَطِّم وجوه الناس".
بالطبع لا يمكن لعاقل أن ينكر خطورة الفاشية والارهاب على مصير ومستقبل البلدان، لكن هذا العاقل أيضا ينبغي أن يدرك أننا لن ننتصر لمجرد أن نتحول إلى إعلاميين ينقلون عن مصادر لاتريد ان تصرّح باسمها.
هناك لغة صحفية لايريد البعض لها ان تتداول، مصرّين على استبدالها بتعابير ومصطلحات " دمج " لم تعد تعني شيئاً لأحد..
صحافة "دمج"
[post-views]
نشر في: 25 مارس, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 3
بغداد
صدق غوبلز ما مات بعده عايش وخليفته روبرت مردوخ وجوقت ابواقه الدعاية الاعلامية ماكنة الكذب شغالة دون توقف ما دام الدولار هو هُبَل العصر ؟!!! عندك السي ان ان هي غوبلز عندك البي بي سي هي غوبلز عندك الجزيرة هي غوبلز بلحمه ودمه وحتى نفس الدي ان اي ونفس
ام رشا
أستاذ علي لماذا تستثنى الصحافة والصحافيين من الدمج فالمشهد العام يضم واحد دخل السجن بتهمة اختلاس في زمن النظام السابق وخرج سجين سياسي دمج وآخر قتل نتيجة عركة وأيضا صار شهيدا من ضحايا النظام السابق اي شهيد دمج والآخر ترك الوظيفة بملء إرادته و صار أيضا مفصو
ابو سجاد
لكل معركة رجالها واليوم معركة الاعلام فهل لهذه المعركة من رجال ومن يريد ان يدخل التاريخ بطلا ومنتصرا ان لايكون جبانا ومهزوما في هذه المعركة المصيرية من تاريخ العراق