لا أكف عن التفكير بمنظر طبيعي مختزل كلما نظرت الى واحدة من لوحات الفنان الأميركي مارك روثكو العملاقة ! هكذا أرى أعماله دائماً وبهذه الطريقة أشعر به وكأني أراقبه من ثقب باب مرسمه وهو يجلي المنظر الطبيعي ويلغي كل زوائده ويشذبه من التفاصيل الكثيرة ليحيله الى لطختين أو ثلاث لطخات كبيرة يضعها بشكل أفقي على سطوح قماشاته الواسعة ، أشاهده يصوغ أعماله بكل هذه الحساسية وهذا التجريد الذي أوصله الى أقصاه وبطريقة فريدة وأصيلة . هذا الفنان الذي تأثر في خطواته الأولى كما هو واضح بفنانين كثيرين مثل بيكاسو وميرو ، لكن تعلقه الكبير كان بالفنان الهولندي موندريان ، وهذا الأخير كان قد قضى جزءا من حياته في أميركا أثناء الحرب العالمية الثانية وقد التقى الاثنان مراراً حين كان روثكو مايزال منشغلاً برسم شخصياته التعبيرية الشاحبة وفي نفس الوقت كان ينظر الى أعمال موندريان بإعجاب كبير . هكذا فتنته أعمال هذا الفنان الهولندي المجدد واستلهم منه كيفية التأثير بعمق وقوة من خلال بضعة مساحات أو مستطيلات أو خطوط .
قبل أن تغطي شهرته الآفاق الفنية ويصبح أسمه لامعاً في مجال الفن الحديث كان روثكو ( 1903- 1970 ) قد حصل على تكليف برسم لوحات جدارية كبيرة في مطعم الفصول الأربعة التابع لشركة جوزيف سيغرام للمشروبات في نيويورك ، لكن بعد زيارة واحدة من روثكو الى المطعم قام بسحب لوحاته وأعاد لهم النقود لأنه رأي أن المكان كان أنيقاً أكثر من اللازم وأن أعماله كانت مجرد ديكورات في المطعم ولا يمكن لأحد أن يطلع عليها غير زبائن أثرياء ينظرون اليها وهم يتناولون طعامهم ببلادة . وهنا ندرك عمق وقوة شخصيته الفنية التي لا تقبل بحلول بسيطة وساذجة ، هو الذي أصبح بعد سنوات من هذه الحادثة واحداً من أهم فناني القرن العشرين ومن القلائل الذي جددوا وتركوا تأثيرهم العميق في الفن .
الآن يحتفي متحف مدينة لاهاي ، ثاني أكبر متاحف هولندا بالفنان العبقري روثكو ويفرد له مساحة معنوية ومادية كبيرة ، مساحة توازي مساحات لوحاته المفتوحة على الأفق والتي تطل علينا بتأثير فيه الكثير من القوة والتأمل . وليس مصادفة أيضاً أن يمتلك هذا المتحف أكبر مجموعة فنية في العالم لبيت موندريان هذا الفنان الذي تأثر به روثكو ، بحيث يمكن لزوار المعرض أن يتحسسوا خيوط التأثير التي جمعت هذين العملاقين .
في بداياته التي كانت تشمل رسوماً تشخيصية أدرك روثكو أن هذه الرسوم سوف لن تدخله تاريخ الفن وأنها ستبقيه في أحسن الأحوال على هامش الحركة التشكيلية ، لهذا أخذ يجرد أشكاله ويذيب خطوط ملامحها مع اللون ليأخذ الشكل واللون لديه هيئة واحدة . وفي العشرين سنة الأخيرة من حياته قام برسم لوحات كبيرة جداً بلونين أو ثلاثة ألوان فقط ، ثم أخذت هذه الألوان بالشحوب ، وهذا نراه واضحاً على لوحاته المتأخرة اتي طغت عليها ألوان تقترب من لون الأرض مع الرمادي والأسود .
ومثلما تشعرني أعمال روثكو بوجود منظر طبيعي مجرد من التفاصيل فهي في جانب كبير منها تقترب من نافذة تطل على غيمة وقت الصباح ، وهذا ليس غريباً لو عرفنا أن الوقت المفضل للرسم عند فناننا هذا هو بين الخامسة والعاشرة صباحاً حيث ضوء الصباح يقترب تدريجياً وبهدوء من نوافد المرسم وسقفه الزجاجي الذي يشبه مظلة كبيرة .
حين نقترب من لوحاته جيداً في هذا المعرض نلاحظ أيضاً التأثيرات التي تركها على لوحاته فنانان كبيران هما البريطاني وليم ترنر والألماني كاسبر دافيد فريدريك . وحين نتأملها برويّة وصبر أكثر نعرف سر بناء وندرة أعماله وخصوصيتها ، فهو يبنى أعماله على سطوح غطيت بطبقة أساسية مصنوعة من مزيج من اللون والغراء المصنوع من جلود الأرانب ، وتكون هذه الطبقة لديه رقيقة في العادة وتقترب من الشفافية ، بعد ذلك يضع فوقها طبقات ألوانه بدراية وحساسية خاصة ومتفردة لينتج لنا أعمالاً أخذت مكانها المستحق في تاريخ الرسم .
مارك روثكو، نافذة تطل على غيمة
[post-views]
نشر في: 27 مارس, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
علي طالب
لاتفوتني فرصة قراءة باليت المدى فزميلنا الفنان كاووش يقدم المعلومات الفنيه بكل اناقه وبساطه معلومات هامه تشكل رصيد معلوماتي لكل من يريد الاقتراب من فهم الفن التشكيلي لك وللمدى التحيات