هل هي فضيلتنا الشعرية الباقية ام انك ارتكبت خطأً بانسحابك من الحياة والنظر اليها كقديس من بعيد؟ انت وسطها يا صديق وتسهم في التضحية كما في غض النظر او الافتراء احياناً. ترتلُ طويلاً وتزيف في حال .. هي ضرورات الخبز او ضرورات "لأكون" ! ليست هذه رذيلة لك
هل هي فضيلتنا الشعرية الباقية ام انك ارتكبت خطأً بانسحابك من الحياة والنظر اليها كقديس من بعيد؟ انت وسطها يا صديق وتسهم في التضحية كما في غض النظر او الافتراء احياناً. ترتلُ طويلاً وتزيف في حال .. هي ضرورات الخبز او ضرورات "لأكون" ! ليست هذه رذيلة لكنها تبقي الشعر في ظلال الرومانس وتبقينا دائماً في الحرج او المحنة. ان النبالة في الروح وفي اللغة النظيفة وفي التعفف الذي اعرفه فيك واقرأه في قصائدك، تصافيت مع العزلة وابتعدت عن معركة الكسب الشرسة التي تستقبل بصبر اساءاتها. هذا الهدوء الناعم، هذا الهيام الحلمي في الربع الخالي، ابقاك معنا نحن المحرومين والمحتاجين بفداحة الى ما في العالم من حياة، من فرص، من اضواء ولذائذ. وبدلا من ان تشارك في استحصالها، رحت تستنجد بالشعر. هي خطيئتُكَ او فضيلتك. وهي خطيئتي أيضاً او فضيلتي. وفي الحالين خسرنا حياة وخسرنا متعاً وليست لنا حياة ثانية ..
لستُ ضدك او ضد نفسي لكني ارثي لنا، انت وأنا. فأردتُ قصائد تعوضنا او تمنحنا تعزية مقنعة او تثير ندمنا على الغفلة وهي تكشف العوالم الجديدة.
قصيدتي القصيرة عنك لم تكن مجاملة. كانت رصداً شعرياً. لقد كتبتها قبل سنوات وانت تعلم. لكن محبتي لك لا تمنع عدم رضاي عن بقائك في شبه الظل. اعني ان مضامين القصائد التي ما تزال تذكر بخساراتنا. طمعي بقصائد جديدة أشكالاً ومضامين. انت جدير بهذه اللغة التي أُحب وبقصائد فيها حيوية العالم والاّ يغريك الظل البعيد كما يغري فقراء القرى. الحزن الملائكي الشفيف وحس الفقد او الخذلان، قدمته بقصائد نظيفة، حلوة، رشيقة وجميلة وبسيطة. هذا اعتراف. لكن الانشغال بالظلال البعيدة، بساعات الهجر، بالذكريات خطير مثلما هو مريح. ما نزال معا ننشغل بها ونضيع في الانشغال بها بروقاً جميلة جديدة تخطف في الصخب. ليس مجداً الاّ نحسن التقافها ! ثمة في السوق والسياسة وقاعات الديسكو كما في الحدائق وقاعات الموسيقى حياة باهرة و "مناسبات" ووجوه وكسب وعناقات .. انت تقول حزين، ونحن عندنا "سبايات" ومواكب عزاء وناس يضربون جماجمهم بالسيف حسرة على ما ضاع، فكم يبدو أساك باهتاً ونحن في عالم النواح الابدي؟ ان تكون حزيناً ليس مجداً. ان ترى فرحا وحياةً هو المجد! حاجتنا لفكر كاشف، لقصائد ضاربة تصلنا بالعالم الذي انت فيه. هذا الكلام لك كما هو لي مثلما لسوانا كثيرين ما يزالون منكمشين على حصران اكواخهم والعالم يصخب ويشتعل افراحاً ومكاسب. نحن رومانسيون بائسون او حالمون او شرفاء. النتيجة واحدة هي الخسارة!
وفي الفن لابد من اضافة للجمالِ الذي ورثناه او الذي احببناه يوما. ان الرياح التي جرفت الزورق يوما واثارت اشعاراً كثيرة، جرفت زوارق اخرى. انت شاهد مأساة لا تحتمل ما يجري. ماذا تقول؟ نفسك ترتعد آسفة. هذه اخلاقيات دينية ما تزال في قلب تارك الصلاة ..
هل من مراجعة لكتاباتنا، للفحوى فيها؟ لغتنا الجميلة لا تعوضنا. والنغم الاسيان المنفرد، سكون الطير على جدار ينتظر انكشاف الغيم، صارت اليوم تثير ابتسامة أسى أو شجناً عابراً لا غير. اردتُ تقريع نفسي، لومها من خلالك على ما خسرت. تذكرت احزاناً وانا اكتب عنك. كلانا يتأبّى ثم يهوي. كلٌ منا يبتعد ثم يساوم. انت وانا نريد ان نظل فضلاء ولا بأس من لحظة فسوق.. مضموننا الشعري يحتاج الى مراجعة، الى مكاشفة مع النفس والى حذوفات غاضبة احيانا والّا يجعل واحدنا من ظله وثناً، بتعبير بليك .اظن ويتمن مثالا جيدا لليقظة.
ما حولنا من كتابات صحفية، لغةً ومضموناً، ومن هراء وكلام مما في السوق وتجمعات العاطلين من نكات وطرائف تسمى قصائد، هذه الرداءات التي نقرأ والتي نسمع ليست عذراً. هذه لا تمنح قصائدنا المصفّاة امتيازاً. النأي عن الرداءة يجب ان يكون لأننا مختلفون ثقافةً وادراكاً شعرياً الامتياز، لا بمقارنتها بتلك ولكن بالقصائد المحترمة في العالم. قصائدك ذوات البناء المتقن والتقنية هي نتاج ممارسة، ومهارات وثقافة. لكن جديد الثقافة وجديد الافكار والمضامين يظل مطلباً ابدياً للفنان، أي فنان في العالم . كل فن متقدم يكون تطويرياً، يقول باوند، وليس متطوراً فقط! مسعانا لقصائد من تلك التي تلتمع في الازمنة ونتمناها. فبعد كل هذا الخياض الطويل في التراث المجيد، منا ومن العالم و بعد رؤيتنا لاحتفالات العالم وملاهيه ومجازره وفضائحه ومعجزاته وما لا يعد من كتبه وكشوفاته وبعد كل نظريات الادب، لابد من ان نقول جديداً، جديدا ونحتفظ بجمالنا الروحي ونشوتنا الخاصة تماما كما احتفظت قصائدك الهادئة بجلالها وكما بدت بريئة ولَعوبا مغرية احيانا. تلك بساطة جميلة، مريحة تهيئ ساعة نظيفة لمحبّاتنا. انا افهم حزنك كما افهم سكون الشرفاء المُمتَحنين في العصر. نحن لا نستطيع الاقامة في الجمال بعد. هذه محنة جديدة للشعر . التوق التذكّري والروحي ليس كافيا. و اعرفك كم غريب انت في العالم المتلاطم بلا معنى. لك المحبة على المعنى..
قرأت "الربع الخالي" قراءة دقيقة انتبهت فيها حتى لدقائق الموسيقى ولاعراب الكلمات ورأيتني في مناطق الاسى التي هي قدرنا، بين التجار والكذبة وخدم الساسة وغلمان المكاتب. كل ذلك رأيته وراء قصائدك، او هي ذكرتني به، فأردتُ أُدين تلك المثالب وأُدين أنفسنا لأننا لم نكتب بحدة الشعراء الثوريين، لم نطلق صيحاتنا باوركسترات عظيمة لا بناي القصب القديم .. انت تفهمني، ان لم تفهمني سأصب عليك اللعنات فهذه كل طاقتي في التعبير! انا شخصياً لا ادري، اسألك أنت .. هل نبقى بين المعتقدات الراعشة والآمال المعذبة والنظر من بعيد، وفي العزلات الشاحبة نمد ايدينا بخجل لنقتنص شيئا مما في العالم؟ اخشى ان يوصلنا هذا الى التقاطع بين الفن والحياة.
سعيد بهذه القصائد الحنونة الدافئة. لكن اريدك ابعد من احزاننا مادمتَ أبعدَ كوناً، مادام الفرق بيننا شاسعا والافق الحضاري يسخر من فقرنا. أقترب من فعل العواصم، من صخبها واشتباكاتها، من لذاتها وتقاطعات المصائر فيها. لاتبقَ الشاعرَ المعزولَ في الضاحية.
ان قصائد الربع الخالي محكمة البناء ويعرف شاعرها كيف يبدأ وينتهي. مهذبة هي، موجزة وخالية شجراتها من الورق الياب . لقد شذبها حدائقي متذوق هادئ الحركات. وهي اظهرت من بين اوراقها ناعمة الاخضرار الكثير من احزاننا العراقية المزمنة. وما اكتفى شاعرها فاضاف على حزنها من الحزن الذي على البحار..
هكذا انت. قصائدك النبيلة المحزونة، مثل فتيات الشرق الخجولات يفتحن الباب قليلا يخرجن رؤوسهن للضوء وحالما يقترب احدٌ، يحتجبن. جميلات قصائدك وحلوة حركاتهن ولكن الشعلة غائبة يا صديق! في ربعك الخالي جعلت من ظلك وثناً، كما يقول بليك. ناسيا انك وسط العالم المزدحم الكبير. ستقول العالم فاسد شنيع. اقول لك ان تضاجع فيه بغيا خير من عذراء هلامية!
لسنا ابدا ولن نكون بعد، في زمان الجمال النقي ولا في حال نجدان الساعة الضائعة. الى متى نحن نأسى ولا نعيش التجربة؟ هكذا الوم نفسي احيانا فقد صار هذا مدار الكثير من أشعاري. نحن إمّا ان نكون وسط العالم الجديد العظيم بانجازاته وخضمه الثقافي ونستخلص روحه الصعبة التواقة او نبقى صنّاع تراتيل في بيوت مهجورة. ما عاد الحزن يكفي، كما من قبل وليس مَن يتسلى فيه. نغمتك الحزينة الخافتة تموت في الضجيج. وفي موتها تحرف انتباهاتك عن الاشراقات الجديدة في حركات العالم. كم هي اهميتها، وما وقعها في عالمك اللندني المفتوح على القارات؟ وماذا تنفع محبتي او محبتك للفردانية الجميلة منكسرةً ؟ أقرؤك فأرى ظلاً ناحلاً ينحني فوق مياه ظليلة شاحبة بينما السفن والبواخر العملاقة تمر محملة بالبضائع والبشر والاسلحة وبينما الشوارع تكاد تحترق في زحام اللافتات الضوئية. انت تمشي على العشب الجاف مبتعدا عن رصيف الشارع المزدحم مثل من يخشى على تحفة عزيزة ان تنكسر! لا يستطيع ان يجتذبك المركز والاشياء حولك تتداعى. تريد انقاذ الجمال من الطوفان، وهو هذا المآل الصعب الذي يجهد الفن للوصول اليه. هذه مسألة اخرى تجعلني اقترب منك، اقترب من الشاعر وأُحييه وأودِّعُ قصائده الجميلة البسيطة والخجولة، منتبهاً لبراءة الضواحي فيها ..
فوزي كريم
حطَّ على تلّةٍ غريبة
عزاؤه البحر والهواء المغتسل بالموج
يوما فيوما أَلِفَ الطيورَ هناك وألِفَتْهُ.
حين سافرتُ اليه
رأيتُهُ قد تحوّلَ طائراً بحرياً.
استطعتُ ان اميّزَهُ
من رِعْشةِ خوفِه القديم
ومن طريقته في الغناء.
ياسين طه حافظ