في فيلمه الجديد، حاول رينيه فيريه أن يستعيد الذكرى الذاتية والشعرية للكاتب الكبير أنطون تشيخوف ...هذا الكاتب الساحر الذي كان ضائعاً وسط الفوضى العائلية المرهقة وسعى فيريه الى اجتذابه منها لينبعث من جديد في لوحة رائعة هي أقرب الى الحلم منها الى الحقيق
في فيلمه الجديد، حاول رينيه فيريه أن يستعيد الذكرى الذاتية والشعرية للكاتب الكبير أنطون تشيخوف ...هذا الكاتب الساحر الذي كان ضائعاً وسط الفوضى العائلية المرهقة وسعى فيريه الى اجتذابه منها لينبعث من جديد في لوحة رائعة هي أقرب الى الحلم منها الى الحقيقة .
يصوِّر فيريه تشيخوف صبياً جاداً ومسؤولا ويضفي على ملامحه الفتية الرقيقة هيئة شبابية لطيفة وساخرة برصانة واحتشام .
في عام 1890 كان تشيخوف في سن الثلاثين ، وكان يكتب بلا كلل وفي كل ركن من اركان المنزل قصص وروايات ومسرحيات ، وعندما كان يكتب وحيداً في المنزل الضيق ، كانت تنهكه محاولة التركيز وحصر أفكاره فيما يكتب ، ومع ذلك ، لم يكن يرفع القلم عن الورقة حين يشرع في الكتابة حتى تكون القصة قد انتهت .
كما في بقية أفلامه ، يحاول رينيه فيريه في فيلمه الجديد ان يعمل على صهر الأحداث وإذابة ملامح الشخصيات والتركيز على مواقع العمل لكي يعكس صورة حميمية وصادقة .. ويشير فيريه الى التغيير الذي يطرأ على حياة تشيخوف بانتقاله الى منزل جديد كما يتناول مغامرات الحب الاولى ولقاءاته مع ناشره وصولا الى الاختبار الاول في حياته بوفاة شقيقه كوليا الذي كان مثله مريضاً بالسل .
لكي يحقق تشيخوف أمنية شقيقه المتوفى كوليا الذي كان قد درس القانون وكان مهتماً بالبحث في سجلات المنفيين والمبعدين. يبدأ الكاتب رحلته الاولى عام 1890 عبر سيبريا الى سجن للاشغال الشاقة في جزيرة ساخالين ...هذا يعني ان المخرج السينمائي سيقدم لنا تشيخوف كاتبا وطبيبا ومستكشفا واقعيا لأولئك الذين حُرموا من عون الرب ورعاية الانسان .. كان تشيخوف يعــد ذهابه اليهم مهمة ورسالة لابـد من أدائها .
كان تشيخوف جذاباً وفاتناً لكنه لم يكن مغوياً إذ كان يتعامل مع كل شيء بحكم الضرورة والوعي والاخلاص والانسانية وكان يتوقع دائما ان يكون موته قريباً جداً.
لم يعمل المخرج رينيه فيريه على اعادة بناء الشخصية وتأليف ماهو غير موجود فيها، بل عبَّر عن حالة التناغم العميقة التي يشعر بها نحو مؤلف (ايفانوف ) ...لقد اظهرالأصول الشعبية لتشيخوف وتجارب معاناته المبكرة وسط عائلته الصاخبة ..انه يحاول الامتزاج بحياة تشيخوف والتعبير عن اسلوبه في الحياة وعاداته الخاصة ووسائله الحرفية وتعاطفه مع فريقه للتمثيل وبهذه الطريقة يستحضر رينيه شخصية تشيخوف على شاشات السينما بصدق واخلاص وكما كان سيحبها تشيخوف لو كان حياً .
استمر تشيخوف (1860-1904) في مهنة الطب برغم ممارسته الكتابة التي بدأها وهو طالب في كلية الطب في جامعة موسكو ولم يتركها حتى غـدا من أعظم الادباء ، كان يقول " الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي " ...ويعد تشيخوف من كبار الادباء الروس ومن افضل من كتب القصة القصيرة على مستوى العالم ، كما ان مسرحياته كان لها اكبر الأثر على دراما القرن العشرين ..كان مقتنعاً بأن دور الكاتب هو طرح الاسئلة وليس الرد عليها، لذا عمل على ادخال ابتكارات عدة في اسلوب كتابة القصة القصيرة الحديثة إذ اعتمد على شعور الانسان اكثر من اعتماده على الحدث ذاته وهو الاسلوب الذي اعتمده جيمس جويس والعديد من المحدثين من بعده ..وبرغم ان تشيخوف كان يكتب لتحقيق مكاسب مادية في البداية الا ان طموحاته الادبية والفنية سرعان ما تجاوزت ذلك .
ركزالفيلم الذي حمل عنوان ( حياة تشيخوف – الحلم ) على دخول انطوان مدرسة يونانية للصبيان تدعى (جيمنازيوم) وهي نوع من المدارس الثانوية الاوروبية توفر تعليما رياضيا الى جانب التعليم العادي لكنها كانت ترفض ذهاب الطلبة الى المسرح إلا بتصريح خاص وكان تشيخوف قد شاهد مسرحية (أوبرا هيلين الجميلة ) لباخ وهو في سن الثالثة عشرة واصبح بعدها عاشقاً للمسرح ، لذا كان يحصل على التصريح بصعوبة وخاصة في العطل الاسبوعية لمشاهدة المسرحيات التي انفق عليها كل مدخراته وكان مقعده المفضل في الخلف لأنه أرخص ثمناً .
كان تشيخوف يقول : حصلنا على المواهب من آبائنا ، أما الروح فأخذناها من امهاتنا ...كان يقصد بذلك ما كان عليه والده من تعسف وقسوة ونفاق مجتمعي ، بينما كانت والدته امرأة لطيفة تروي له حكايات جميلة عن رحلاتها مع والدها تاجر القماش في جميع انحاء روسيا ...في النهاية يخوض تشيخوف ايضا رحلات استكشافية جميلة ويسافر كثيرا الى سهوب روسيا لمعالجة اعتلال صحته ثم يعود برواية أو مسرحية مكتوبة بعناية وإبداع ..هذه هي الحياة – الحلم لتشيخوف كما رواها فيلم فيريه وحاول تصويرها كحلم مثير!