صدرت مؤخرا للكاتب عباس لطيف رواية (شرق الأحزان)، ويبدو لي ان هذا هوالعمل الروائي الأ ول للكاتب ، إذ لم يسبق له النشر في هذا الميدان ،مع تعدد اهتماماته وكتاباته في مجالات المسرح والقصة القصيرة والأفلام الروائية والوثائقية،فضلا عن كتاباته النقدية الاخر
صدرت مؤخرا للكاتب عباس لطيف رواية (شرق الأحزان)، ويبدو لي ان هذا هوالعمل الروائي الأ ول للكاتب ، إذ لم يسبق له النشر في هذا الميدان ،مع تعدد اهتماماته وكتاباته في مجالات المسرح والقصة القصيرة والأفلام الروائية والوثائقية،فضلا عن كتاباته النقدية الاخرى في التاريخ والفكر.
في الرواية يتبدى مسعى الكاتب لتقديم رؤيته عن الحياة في مدينة الثورة، فهي من بين روايات عديدة امتلكت السعة من الأفكار ونبض الجدل القائم،في مكان له سحره الخاص يختلط فيه الوجع بالمسرات الخفية،يحتمي بأفكاره الكبيرة ضمن مجموعة قريبة الى قلبه.عباس لطيف قدم عملا روائيا مليئا بما هوإنساني ،بواقعية وصدق فني ،وبحث عن الحقيقة الصادمة البسيطة.
عائلة الشرطي توفيق،تعود بأصولها الى تلك الجذور الفلاحية المهاجرة من ريف الجنوب، التي تصاعدت في اربعينات وخمسينات القرن الماضي،وكان ابطالها من الفلاحين الذين كابدوا ظلم الاقطاع ،فوجد توفيق نفسه ، عاملا وحارسا ،ثم متطوعا في سلك الشرطة ،حكم على ابنه الكبير محسن بإلاعدام بتهمة مقاومة الانقلابيين بعد مقتل عبد الكريم قاسم في 9شباط 1963،وظل محسن يتنقل في ظلام السجون ، والام المنكوبة من سجن لاخر ،حتى انها فقدت ابنتها الصغيرة (شروق )ذات الخمسة اعوام في باب سجن الحلة،وتكفل حراس السجن بدفنها،يطلق سراح محسن من السجن بقرار تخفيض الاحكام ،بعد سبعة اعوام قضاها فيه.خرج محسن وهو حانق على الفكر وكل مايمت بصلة الى القراءة،حامد شقيقه الاوسط منشغل بالقراءة ومهتم بالكتاب،لايبعث حاله هذا المسرة والارتياح في نفس شقيقه المنكسر محسن ،الذي يدعوه ان يفكر بمستقبله ، والابتعاد عن الاوهام.
ينتقل محسن وعائلته الى احد البساتين في اطراف بغداد ،ليعمل حارسا فيه ،بعد لقاء بالصدفة مع احد رفاقه في السجن ،وفرت له فرصة الاسترخاء والهدوء والعزلة بعيدا عن الناس.هو الاخ الاكبر،ويدرك فداحة المسؤولية.لم يجد الشقيق حامد سوى باب التطوع مفتوحا على مصراعيه في أفق رمادي تماما،كانت الام تراقبه تماما وتتجسس عليه خوفا من ان يلتحق بأخيه،لذا فانها بين الحين والاخرتشن حملة شعواء وتقيم مأدبة لحرق كتبه، وادرك حامد ان فصلا جديدا من العلاقة قد بدأ مع محسن ، هو فصل الاختلاف الذي ينسف الصورة التي انغرست في ذهنه على مدى سنين لشقيقه وكأنه رمزجيفاري.
كامل ، الشقيق الاصغر، الطفل المطرود من المدرسة الابتدائية ،لرثاثة ملابسه وهندامه ،حاصرته الدموع التي ملأت تقاسيم وجهه ،وجد نفسه في ساحة تعج بالحفاة من امثاله.في مرحلة لاحقة من عمر كامل ، الشاب الطالب الموا ظب والمثابرعلى الدراسة لتجاوز المرحلة الاعدادية ، فجأة يجد نفسه عاشقا لـ(سراب)، كانت صورتها تملأ حدقتيه وذاكرته ،وتجهز على مشاعره وعقله ،وبسرعة دراماتيكية تطلب سراب من كامل ان يوافقها على الهروب بعيدا عن الاهل ،ويتفق معها على تنفيذ الفكرة في التالي،وفي لحظة ما يكتشف شقيقه حامد عزمه على المغادرة ،بعد ان سقطت عيناه على حقيبته، (اترك المرأة تعود لأهلها ،ماتفعله تهور وحماقة)فتبخرت احلام كامل بسرعة وانهارت اجمل آماله.الرواية تقدم (كامل)كأحد الشخصيات القلقة،المترددة ،المستلبة ،حتى في المواقف الصعبة،إن حادث طرده من المدرسة القى بظله على سلوكه وانفعالاته في مراحل لاحقة في مواجهة ظروف صعبة في حياته فوجد نفسه عاجزا قاصرا يشعر بالوحدة والحاجة للاخر،كامل يستجيب لطلب الوالدين بالزواج من احدى قريباته وهو مايزال طالبا في الكلية،وبدون اية مشاعر حب ولا رغبة حقيقية بالزواج مدفوعا بوهم ان الزواج يمكن ان يخلصه من هوسه بالنساء بعد خيبة سراب ، يتخلى عن سراب التي تزوجت رجلا لاتحبه ثم تقدم على الاتنحار بحرق نفسها بنهاية مؤلمة ومفجعة.
اسهم عباس لطيف في تعميق الاحساس بثيمة الرواية ومغزاها الكلي ،الا ان اشكالات عدة تواجه القارئ وهو يحاول البحث عن اجابات لبعض الاحداث التي اثقلت كاهل الرواية،ماكان للبناء الروائي ان يفقد شيئا مهما ،او ان يفقد توازنه، لو ان الروائي حذف تلك الاحداث ،عنوان الرواية (شرق الاحزان) ،لماذا يرتبط الحزن باحدى الجهات الاربع ولماذا الشرق تحديدا ؟ولم لاتكون الرواية غرب الاحزان او جنوبها اوشمالها ؟للاحزان منبع او مصدر ومستودع ، هل هناك ضير في استعارة احداهن؟ ام ان الروائي اراد بالشرق دلالة للمكون القادم من الجنوب الذي استوطن شرقي العاصمة،وورثوا الوجع والعذاب والموت في كل العهود ،وحتى الطفلة (شروق) اسمها وموتها امام باب السجن ،حدث يحمل اكثر من دلالة في موت الاحلام والامال الغضة.
لم تخل الرواية من احداث قد تبدو مفتعلة ومبالغا فيها، اذ لم اجد ضرورة لحديث السيد(فرحان) وهو يتحدث لابي محسن عن مغزى جلسة عشائرية تسمى (الهفة)،ويعني بذلك خروج الابناء على الاباء وعدم اقتدائهم بشخصياتهم.كما ان اللجوء الى الحوار باللهجة الريفية الدارجة لم يعمق الحوار او يغنيه اويضيف له قيمة جمالية ، بل افسده وابعده عن سياقه .كما ان قدرا من الاحساس بخفوت الشد الدرامي وافتقاد الرواية لحرارتها في حدث اخر لم اجد له معنى في الشد والتشويق ،هو حادث اختفاء احد الاسود واحد القردة من حديقة الحيوانات،التي تعمل فيها فاتن فتلجأ مع زملائها الى ان تلبس جلود الحيوانات لايهام ادارة الحديقة بوجود الحيوانين.
لجأ الروائي الى اساليب متعددة في السرد،من ضمير المتكلم الى الغائب ،فالمخاطب وقسم الى مقاطع ، اسهمت في استكمال زوايا الرواية للشخصيات المحورية والكشف عن ابعادها المختلفة عبر اكثر من زاوية.
لقد بدت صورة الحرب اكثر بشاعة وسوداوية ولعل حجم الماساة وذروتها تبدو على اشدها واكثرها غرابة حين تفرض على حامد المشاركة في اعدام الجنود بذريعة الهروب ورفضه الامتثال للامر يعني ابعاده الى جبهات التماس ليغيب نهائيا ،ان الاجواء الكابوسية التي رافقت غياب حامد هي جزء من اشكال الاستلاب الروحي الذي عاشه المثقف العراقي ايام الحروب.افقدته الحرب الكثير من الحماسة وعمقت غربته ،كانت حربا شرسة ،ابتلعت البيانات العسكرية كل المواليد وخرقت كل القوانين ونسفت كل السكينة(ص75)
حاول الروائي عباس لطيف ان يصورمرحلة مأساوية من تاريخ العراق الدموي واكثرها قلقا واضطرابا ،وهذا سرالنهايات الفاجعة لابطال الرواية،كامل يطلق زوجته متخليا عن اطفاله كشرط قبوله زوجا لشهرزاد التي لم تكن سوى وهم ارادت الانتقام لأمها سراب بعلاقة حب مزيفة كانت مفاجأة كالحة لكامل وحدثا مرعبا افقده توازنه، دفع به نحو الضياع والسلوك العابث غير العقلاني واستطاع الروائي ان يصور لنا مساحة الرعب والاحباط التي افترست شخصية كامل.
واخيرا تمكن المؤلف من تجنب التكرار الممل والتشابه في الرؤى،فحقيقة (شرق الأحزان)لايمكن ادراكها كاملة الا بعد ان نطوي الصفحة الاخيرة منها.