الاحتفاء بمؤيد الراوي، الأسبوع الماضي، فوت عليّ الاحتفال بيوم الشعر العالمي لأن الاحتفاء بشاعر أعرفه أهم، كما أظن، من الاحتفال بمناسبة يحتفل بها كثيرون عبر العالم.
في المناسبات الأثيرة جدا على روحي أحتفل، وحدي، حتى ولو متأخراً.. والاحتفال بالشعر احتفال بمثلث متساوي الأضلاع: الشاعر، القصيدة، المتلقي: ديمقراطية الإبداع.
تفكّرت في معنى الاحتفال بيوم الشعر العالمي، الذي مر قبل أيام، فلم أجد الباب الذي علي أن أطرقه لأدخل البهو.. بهو الاحتفال.
أول ما طرقته كان باب الذاكرة:
كتابة أول قصيدة لم تر النور لأنها، ببساطة، ساذجة فلم تر النور فهي عشيت بضوئها الذاتي الأخاذ. غرور قصيدة مراهقة. تصورت نفسي بطلاً أسطوريا مثل جدي كلكامش.
سألت ذاكرتي: وماذا حصل بعدها؟
قالت: قصيدة مضطربة فازت بجائزة مدرسية لكنها كانت نقلة في حياتي الشعرية.
وهل عرفت كيف تكتب الشعر؟
لا. حتى اللحظة. أبحث عن السطر الأول، مفتاحاً، لتفاجئني أقفال كثيرة.
هل لك أن تعرّف الشعر؟
من الصعب جداً، يا صديقي عواد، والشعراء الذين عرفوه وعرّفوه قبلي كثر: شعراء جاهليون وإسلاميون، نقاد ومتكلمون، منذ "سقط اللوى" حتى معرّي المعرة ثم الجواهري والسياب والبريكان ومن الأجانب كثيرون جدا.. لكل تعريفه ومعرفته.
وأنت؟
أنا؟ أنا أصغر من أن أعرف عالماً معقداً، صعباً، لا متناهياً.
قل شيئاً، يا رجل. على ضوء تجربتك مهما كانت متواضعة.. مهما كنت متواضعاً.
أولاً: لا أحب صفة التواضع ولا المتواضعين.. التواضع هو أن ينزل المرء من عليائه ويتخلى عن تكبّره.. وأنا لست في علياء ولا متكبراً. أنا شخص طبيعي حسب.
لا تتفلسف علينا رجاء. قل شيئاَ ما فأنت تكتب الشعر منذ أربعين عاماً.. رغم أنك مقلّ، والمقلّون يثيرون الجدل أكثر من المكثرين الذين يثيرون الدجل.
حسناً.. أنت ملحاح يا صديقي، عواد، وأنا وإياك كثيرا ما نختلف ونضطرب في المضطرب الحامي فلا يعرف أحدنا الآخر إلا لماماً.
الشعر، يا صديقي، حزمة مفاتيح لا نفع منها لأنها لا تعرف أقفالها في قلعة مظلمة.
والشعر امتحان اللغة باللغة فهو خلاصتها وإن كان من جنسها.
الشعر صناعة وبضاعة.. قمصان وأحذية وأربطة عنق وبنطلونات.. كل يصنع منها ما يراه وكل يقتني منها ما يعجبه.
الشعر حشد من النساء وكل امرأة قصيدة لا تشبه غيرها. كلهن حسناوات حتى عجائزهن.
الشعر انتباهة في لحظة غفلة.
الشعر محاولة لمنع العالم من التلوث.
الشعر أول امرأة اسمها سافو الإغريقية كتبت مئات القصائد لكنها لم تترك خلفها سوى القليل جدا وبقيت خالدة.
إذا أحرقت آلافاً من كتب الشعر فستنبثق القصيدة في مكان ما.
الشعر يوضح الغامض ويغمّض الواضح.
الشعر فن التمرد.
الشعر بين قبيلتين متحاربتين في موقف لا يحسد عليه.. هو لا يوقف الحرب لكنه يقاتلهما معاً لتحقيق السلام.
الشعر ضربٌ من الموت.
الشعر أقل الكلام عن أعظم الألم.
لا تعوّل على شاعر يكتب: "أنا حزين".. دعنا نقرأ حزنك!
الشعراء هم الأقلية الوحيدة التي تعبر عن الأكثرية.
وقرأت لكم ما كتبه لورنس فيرليغيتي: (*)
الشعر: المرأة عارية والرجل عارياً وهو المسافة بين الاثنين.
الشعر هو الرمح اللامع لمحارب أكثر فقراً.
الشاعر، تحديداً، هو رسول الإيروس، الحب، الحرية، وعليه فهو الخصم الطبيعي وغير العنيف للدولة البوليسية.
الشعر لا جنس له لكنه ليس خنثى.
الشعر هو النبات الذي يطلع ليلاً كي يمنح الرغبة اسماً.
الشعر يوجد لأن ثمة من يضعون الأزهار في السجون.
الشعر هو الملابس الداخلية للروح.
(*) كل السطور التي تحت ما كتبه فيرلينغيتي من ترجمة المغربي عبد اللطيف الوراري.